Telegram Group Search
قال الله تعالى : [[ وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ (٨٣)إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (٨٤) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ (٨٥) أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (٨٦) فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (٨٧) ]] الصافات .

آيات بحثنا هذا تتناول بشئ من التفصيل حياة النبي الشجاع إبراهيم (عليه السلام) محطم الأصنام بعد آيات استعرضت جوانب من تاريخ نوح (عليه السلام) الملئ بالحوادث.
ففي البداية تحدثت القصة عن تحطيم إبراهيم للأصنام، والموقف الشديد الذي اتخذه عبدة الأصنام تجاه إبراهيم، فيما يتطرق القسم الآخر من القصة للمشهد الكبير الذي يتمثل في تضحيات إبراهيم الخليل وقضية ذبح ابنه إسماعيل، والآيات التي تخص هذا القسم ذكرت هنا - فقط - بهذا التفصيل، ولم تذكر في موضع آخر بهذا الشكل.
الآية الأولى، ربطت بين قصة إبراهيم وقصة نوح بهذه الصورة وإن من شيعته لإبراهيم.
أي إن إبراهيم كان سائرا على خطى نوح (عليه السلام) في التوحيد والعدل والتقوى والإخلاص، حيث أن الأنبياء يبلغون لفكر واحد، وهم أساتذة جامعة واحدة، وكل واحد منهم يواصل تنفيذ برامج الآخر لإكمالها.
كم هي جميلة هذه العبارة؟ إبراهيم من شيعة نوح، رغم أن الفاصل الزمني بينهما كان كبيرا (قال بعض المفسرين: إن الفاصل الزمني بينهما يقدر ب‍ ٢٦٠٠ سنة)، إذ أن العلاقات الإيمانية - كما هو معروف - لا يؤثر عليها الفاصل الزمني أدنى تأثير .

بعد هذا العرض المختصر ندخل في التفاصيل، قال تعالى: إذ جاء ربه بقلب سليم.
حيث فسر المفسرون (قلب سليم) بعدة صور، أشارت كل واحدة منها إلى أحد أبعاد هذه المسألة.
القلب الطاهر من الشرك.
أو القلب الخالص من المعاصي والظلم والنفاق.
أو القلب الخالي من حب الدنيا، لأن حب الدنيا هو مصدر كل الخطايا.
وأخيرا هو القلب الذي لا يوجد فيه شيء سوى الله.
في الحقيقة إن كلمة (سليم) مشتقة من (السلامة)، وعندما تطرح السلامة بصورة مطلقة، فإنها تشمل أيضا السلامة من كل الأمراض الأخلاقية والعقائدية.
فالقرآن الكريم يقول بشأن المنافقين في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا، أي إن قلوبهم مصابة بنوع من أنواع المرض، وإن الله سبحانه وتعالى أضاف أمراضا أخرى إلى ذلك المرض على أثر لجاجتهم وارتكابهم المزيد من الذنوب.
وأجمل من فسر عبارة (القلب السليم) هو الإمام الصادق (عليه السلام) عندما قال :
" القلب السليم الذي يلقى ربه وليس فيه أحد سواه! " حيث جمع بقوله كل الأوصاف المذكورة مسبقا.
وقد جاء في رواية أخرى للإمام الصادق (عليه السلام) " صاحب النية الصادقة صاحب القلب السليم، لأن سلامة القلب من هواجس المذكورات تخلص النية لله في الأمور كلها " .

واعتبر القرآن الكريم القلب السليم رأس مال نجاة الإنسان يوم القيامة، حيث نقرأ في سورة الشعراء، وفي الآيات ٨٨ و ٨٩ على لسان النبي الكبير إبراهيم (عليه السلام) قوله تعالى: يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم .

نعم، من هنا تبدأ قصة إبراهيم ذي القلب السليم، والروح الطاهرة، والإرادة الصلبة، والعزم الراسخ، مع قومه، إذ كلف بالجهاد ضد عباد الأصنام، وبدأ بأبيه وعشيرته إذ قال لأبيه وقومه ماذا تعبدون، ما هذه الأشياء التي تعبدونها؟
أليس من المؤسف على الإنسان الذي كرمه الله على سائر المخلوقات، وأعطاه العقل أن يعظم قطعة من الحجر والخشب العديم الفائدة؟ أين عقولكم؟
ثم يكمل العبارة السابقة التي كان فيها تحقير واضح للأصنام، ويقول: أإفكا آلهة دون الله تريدون .
استخدام كلمة (إفك) في هذه الآية، والتي تعني الكذب العظيم أو القبيح، توضح حزم وقاطعية إبراهيم (عليه السلام) بشأن الأصنام.

واختتم كلامه في هذا المقطع بعبارة عنيفة فما ظنكم برب العالمين إذ تأكلون ما يرزقكم به يوميا، ونعمه تحيط بكم من كل جانب، ورغم هذا تقصدون موجودات لا قيمة لها من دون الله، فهل تتوقعون أنه سيرحمكم وسوف لا يعذبكم بأشد العذاب؟ كم هو خطأ كبير وضلال خطير؟!
عبارة رب العالمين تشير إلى أن كل العالم يدور في ظل ربوبيته تبارك وتعالى، وقد تركتموه واتجهتم صوب مجموعة من الظنون والأوهام الفارغة.
وجاء في كتب التأريخ والتفسير، أن عبدة الأصنام في مدينة بابل كان لهم عيد يحتفلون به سنويا، يهيئون فيه الطعام داخل معابدهم، ثم يضعونه بين يدي آلهتهم لتباركه، ثم يخرجون جميعا إلى خارج المدينة، وفي آخر اليوم يعودون إلى معابدهم لتناول الطعام والشراب.
وبذلك خلت المدينة من سكانها، فاستغل إبراهيم (عليه السلام) هذه الفرصة الجيدة لتحطيم الأصنام، الفرصة التي كان إبراهيم (عليه السلام) ينتظرها منذ فترة طويلة، ولم يكن راغبا في إضاعتها.
💍 دروس في تفسير القرآن 💍
🟢 كتاب الأخلاق في القرآن الجزء الأول 🟢 معطيات الإخلاص: بما أنّ حالة الإخلاص، تُمثّل أغلى جوهرةٍ تُحفظ في خزانة الرّوح، و ما يترتّب على هذه الحالة من معطيات إيجابيةٍ مهمّةٍ، فقد أوردت الرّوايات تلك المسألة، بصورةٍ بليغةٍ جميلةٍ، و منها: «ما أَخْلَصَ عَبْدٌ…
🟢 كتاب الأخلاق في القرآن الجزء الأول 🟢

تفسير و إستنتاج:

«الآية الاولى» : تبيّن أن المنّ بالصدقات و إيذاء الآخرين، يدخل في عداد الرّياء و يمحق أعمال الخير، وتبيّن أنّ المرائي لا يعيش الإيمان باللَّه ولا باليوم الآخر، «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى ...»، وبعدها يشبّه هؤلاء الناس بمثل الذي يُنفق أمواله من موقع الرّياء: «كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ...» .

وجاء في ذيل الآية: تشبيهٌ جميلٌ جدّاٌ لأعمالهم العقيمة، التي لا تثمر في نطاق المعنويّات و ترتب الثّواب، فأعمالهم كالصّخر الذي يعلوه التراب، فيَشتَبِه الفلاح في أمره، فيبذر فيه البذور بأمل الخصب و الزّرع، فيأتي المطر ويزيل كلّ شي‌ءٍ، فقال: «فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ‌
فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً».

و من المؤكد أنّ مثل هذا العمل و الزرع، لن يثمر أو يورق، فكذلك سبحانه و تعالى، لا يهدي من ينطلق في تعامله مع اللَّه تعالى من موقع الرّياء والكفر، «لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْ‌ءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَايَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ».
فعرّفت الآية مثل هؤلاء الأفراد بالمرائين الذين لا يؤمنون باللَّه ولا باليوم الآخر، و مرّة اخرى عرّفتهم بالكافرين، الذين تتحرك أعمالهم كالسّراب المخادع، الذي لا قيمة له، لأنّهم بذروا أعمالهم في أرض الرّياء السّبخة التي لا تصلح للزراعة، و يوجد إحتمال آخر في تفسير الآية، و هو أنّ المرائي نفسه بمثابة قطعة الصّخر، التي لا يثبت عليها التراب، ولا يفيد معه أيّ بذرٍ من بذور الخير و الصّلاح.

نعم! فأرواحهم مريضةٌ و أعمالهم عقيمة، لا تقوم على أساس من الخير، و نيّاتهم مشوبة بدرن الرّياء و الشّرك الخَفي.
و اللّطيف: أنّ الآية التي تلتها في سورة البقرة، شبّهت أعمال المخلصين، بجُنينةٍ لا بذور فيها إلّا بذور الصّلاح، فأصابها وابلٌ فنبتت نَباتاً حسناً، فأثمرت ثمراً مضاعفاً و مُباركاً فيها.

«الآية الثانية» : خاطبت الرّسول الأكرم صلى الله عليه و آله، و أمرته بإيصال التّوحيد الخالص للنّاس، إنسجاماً مع خطّ الرّسالة، و بإعتبار أَنَّ التّوحيدَ أصلٌ أساسي في الإسلام: «قُلْ إِنّما أَنا بَشَرٌ مِثلُكُمْ يُوحى‌ إِلَيَّ إِنّما إِلَهُكُم إِلهٌ واحِدٌ».

و بذلك يستوحي المؤمن من جو الآية الكريمة، أنّ الأعمال يجب أن تكون خالصةً و منزّهةً من أدران الشّرك: «فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً».

و عليه فإنّ الشّرك في العبادة، يهدم أساس التّوحيد، و الإعتقاد بالمعاد في حركة الإنسان و الحياة، أو بتعبيرٍ أدق: فإنّ جواز السّفر إلى الجنّة الخالدة، يتمثل بِخُلوص العمل في دائرة السّلوك و النيّة.
و جاء في شأن نزول الآية: قال إبن عباس: أنّها نزلت في جُندب بن زهير العامري، قال: يا رسول اللَّه إنّي أعمل العمل للَّه‌ تعالى، واريد به وجه اللَّه تعالى، إلّا أنّه إذا إطّلع عليه أحد من الناس سرّني؛ فقال النّبي صلى الله عليه و آله: «إنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ وَلا يَقْبَلُ إِلّا الطَّيِّبَ وَلا يَقْبَلُ ما شُورِكَ فِيهِ» .

وجاء في شأن نزول الآية أيضاً، قال طاووس: قال رجل: يا رسول للَّه! إني احبّ الجهاد في سبيل اللَّه تعالى واحبّ أن يرى مكاني، فنزلت الآية. 

وَ وَرد مثل هذا المضمون بالنّسبة للإنفاق وصِلة الرّحم‌ ، وتبيّن أنّ الآية الآنفة: نزلت بعد الأسئلة المختلفة، في الأعمال المشوبة بغير الأهداف الإلهيّة، و قد إعتبرت المُرائي على حدّ من يعيش حالة الشّرك باللَّه و الشّخص الذي لا إيمان له بالآخرة.
و نقرأ في حديثٍ آخر، عن الرّسول الأكرم صلى الله عليه و آله: «مَنْ صَلّى‌ يُرائي فَقَدْ أَشرَكَ، وَ مَنْ صامَ يُرائِي فَقَدْ أَشرَكَ، وَمَنْ تَصَدَّقَ يُرائي فَقَدْ أَشرَكَ، ثُمَّ قَرَأ: فَمَنْ كانَ يَرجُوا لِقاءَ رَبِّهِ ...» .

«الآية الثّالثة»: بيّنت أنّ الرّياء هو من فعل المنافقين: «إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا».

والجدير بالذكر أنّ النّفاق عبارةٌ عن إزدواجية الظّاهر والباطن، وكذلك الرّياء فهو إزدواجية الظاهر والباطن، حيث يتحرك المرائي في أعماله لجلب الأنظار، فمن الطّبيعي أن يكون الرّياء من برامج المنافقين .
قال الله تعالى : وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا (١٩) الإنسان .

يتحدث الله تعالى عن المستقبلين في هذا الحفل البهيج المقام بجوار الله في النعيم الأعلى فيقول تعالى ويطوف عليهم ولدان مخلدون إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤا منثورا.

إنهم مخلدون في الجنان، وطراوة شبابهم وجمالهم ونشاطهم خالد أيضا، وكذا استقبالهم للأبرار، لأن عبارة (مخلدون) وعبارة (يطوف عليهم) من جهة أخرى تبيان لهذه الحقيقة.

" لؤلؤا منثورا ": يراد به الإشارة إلى جمالهم وصفائهم وإشراق وجوههم وكذلك حضورهم في كل مكان من المحفل الإلهي والروحاني.

أما من هم هؤلاء الولدان ؟

قال البعض: إنهم أبناء البشر من هذه الدنيا الذين توفوا قبل البلوغ، وصحيفة أعمالهم بيضاء لم تدنس بعد، فقد بلغوا هذه المرتبة بلطف الله سبحانه، وخدمتهم للمقربين تقترن بارتياح عظيم ورغبة عميقة ولذة من أفضل اللذات، لأنهم في خدمة المقربين من الحضرة الإلهية.

وقد ورد في هذا المعنى حديث للإمام علي (عليه السلام).

إلا أننا نقرأ في تفسير آخر أنهم أطفال المشركين ولأنهم لم يرتكبوا ذنبا فقد حصلوا على هذه المرتبة، وأطفال المؤمنين يلتحقون بآبائهم وأمهاتهم.

ونقرأ في تفسير ثالث أنهم خدام الجنة، حيث إن الله سبحانه قد أعدهم لهذه المهمة بشكل خاص .
💍 دروس في تفسير القرآن 💍
🟢 كتاب الأخلاق في القرآن الجزء الأول 🟢 تفسير و إستنتاج: «الآية الاولى» : تبيّن أن المنّ بالصدقات و إيذاء الآخرين، يدخل في عداد الرّياء و يمحق أعمال الخير، وتبيّن أنّ المرائي لا يعيش الإيمان باللَّه ولا باليوم الآخر، «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا…
🟢 كتاب الأخلاق في القرآن الجزء الأول 🟢

«الآية الرابعة» : إعتبرت الأعمال التي ينطلق بها الإنسان من موقع الرّياء، مساويةٌ لعدم الإيمان باللَّه تعالى واليوم الأخر: «وَالَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنْ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِيناً فَسَاءَ قَرِيناً».
و عليه فإنّ المرائين هم أصحاب الشيطان، الذين يفتقدون الإيمان الحقيقي بالمبدأ و المعاد.


«الآية الخامسة»: تنهى المسلمين من التشبّه بأعمال المشركين الكفّار، الذين لا يفعلون شيئاً إلّا للرياء و التّفاخر فقط: «وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَراً وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ».

فطبقاً للقرائن و الشواهد الموجودة، وتصديق المفسّرين، فإنّ هذه تشير إلى خروج المشركين من قريش في يوم بَدر، بحليّهم وزينتهم وقد جلبوا معهم آلات الطّرب و اللّعب و اللّهو و النبّيذ، وهم يقصدون جلب أنظار أصحابهم من المشركين الوثنيين.
جاء في بعض التّفاسير، أنّ منطقة بدر، كانت تعتبر من المراكز التّجارية لعرب الجاهليّة في وقتها، و أنّ أبا جهل جاء بوسائل الطرب و الجواري، لغرض مُراءاة النّاس، وفَقْأ العيون كما يقول المثل الشّائع.

و على كلّ حال، فإنّ القرآن الكريم قد نهى المؤمنين من أمثال هذه الأعمال الشائنة، و دعاهم إلى ترويض النّفس بالإخلاص و التّقوى، للتغلب على تلك الحالات النفّسية الخطرة، و أن لا ينسوا مصير المُرائين و أتباع الشّيطان في معركة بدر .

«و الآية الأخيرة» : من الآيات مورد البحث، نجدها تذّم الرّياء ولكن بصورة اخرى فتقول: «فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ».
فقد جاءت كلمة «الويل»، في (٢٧) مورداً من القرآن، و إختصّت في الأغلب بالذّنوب الكبيرة الخطرة جدّاً، وهنا تحكي عن شدّة قُبح ذلك العمل في واقع الإنسان و روحه.
إنّ ما ورد في الآيات الآنفة الذكر، يوضح إلى درجةٍ كبيرةٍ، قُبحَ هذه الخطيئة، و أخطارها و آثارها السلبيّة على سعادة الإنسان في حركة الحياة، و من الواضح فإنّ الرّياء يقف حَجرَ عثرةٍ في طريق تهذيب النّفس، و طهارة القلب و الرّوح للإنسان المؤمن .
🟢 كتاب الأخلاق في القرآن الجزء الأول 🟢

الرّياء في الرّوايات الإسلاميّة:

تطرقت الرّوايات لهذا الأمر بقوّةٍ و أهميّة بالغةٍ، و عرّفت الرّياء بأنّه من أخطر الذّنوب، و منها:
١ - ما وَرد عن الرّسول الأكرم صلى الله عليه و آله، أنّه قال: «أَخْوَفَ ما أَخافُ عَلَيكُمْ الرّياء و الشَّهوةُ الخَفِيّةُ» .

ويمكن أن يكون المراد من الشّهوة الخفيّة، هو المقاصد الخفيّة للرياء.

٢ - و أيضاً ما نقل عنه صلى الله عليه و آله: «أَدنى‌ الرِّياءِ شِركٌ» .

٣ - وأيضاً عنه صلى الله عليه و آله: «لا يَقْبَلُ اللَّهُ عَملًا فِيهِ مِقدارُ ذَرَّةٍ مِنْ رِياءٍ» .

٤ - و عنه صلى الله عليه و آله: «إِنَّ المُرائِي يُنادى‌ يَومَ القِيامَةِ يا فاجِرُ يا غادِرُ يا مُرائي ضَلَّ عَمَلُكَ وَ حَبَطَ أَجْرُكَ إِذْهَبْ فَخُذْ أَجْرَكَ مِمَّن كُنْتَ تَعْمَلُ لَهُ» .

٥ - و قال أحد أصحاب الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله، رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في يوم ما باكياً، فقلت:
ما يُبكيك يا رسول اللَّه؟ فقال: «إنّي تَخَوَّفْتَ عَلى‌ أُمَّتِي الشَّركَ، أَمّا إِنّهُمْ لا يَعَبُدُونَ صَنَماً وَلا شَمْساً وَ لاقَمَراً وَلا حَجرَاً، وَلَكِنَّهُم يُراؤُونَ بِأَعْمالِهِم» .

٦ - و في حديث آخر عنه صلى الله عليه و آله قال: «إِنَّ المَلَكَ لَيَصْعَدُ بِعَمَلِ العَبْدِ مُبْتَهِجاً بِهِ فَإِذا صَعَدَ بِحَسَناتِهِ يَقُولُ اللَّهُ عَزَّوَجَلَّ إِجْعَلُوها فِي سِجِّينٍ إِنَّهُ لَيسَ إِيَّايَ أَرادَ بِها» .

٧ - و أيضاً عنه صلى الله عليه و آله: «يَقُولُ اللَّهُ سُبْحانَهُ إِنِّي أَغْنَى‌ الشُّرَكاءِ فَمَنْ عَمِلَ عَمَلًا ثُمَّ أَشْرَكَ فِيهِ غَيرِي فَأَنَا مِنْهُ بَرِى‌ءٌ وَهُوَ لِلَّذِي أَشرَكَ بِهِ دُونِي» .

هذه الأحاديث السّبعة عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، بيّنت أنّ إثم الرّياء بدرجةٍ من الشدّة، بحيث لا يضاهيه شي‌ءٌ من الذّنوب و الخطايا، و ما ذلك إلّا للنتائج السّيئة للرّياء في نفس وروح الإنسان، وكذلك على مستوى الفرد والمجتمع.

أمّا ما ورد عن الأئمّة عليهم السلام:
٨ - ما ورد عن الإمام الصادق عليه السلام، ينقل عن جدّه عليه السلام: «سَيأَتِي عَلَى النَّاسِ زَمانٌ تَخْبَثُ فِيهِ سَرائِرِهُمْ وَتَحْسُنُ فِيهِ عَلانِيَّتِهِم، طَمَعاً في الدُّنيا لا يُريدُونَ بِهِ ما عِنْدَ رَبِّهِم يَكُونَ دِينُهُمْ رِياءً، لا يُخالِطُهُم خَوْفٌ، يَعُمُّهُمُ اللَّهُ بِعِقابٍ فَيَدْعُونَهُ دُعاءَ الغَرِيقِ فلا يَسْتَجِيبُ لَهُمْ» .

٩ - و في حديثٍ آخر عن الإمام الصادق عليه السلام، أنّه قال: «كُلُّ رِياءٍ شِرْكٌ، إِنَّهُ مَنْ عَمِلَ لِلنَّاسِ كانَ ثَوابُهُ لِلنّاسِ، وَ مَنْ عَمِلَ للَّهِ كانَ ثَوابُهُ عَلَى اللَّهِ» .

١١ - و في حديث عن أميرالمؤمنين عليه السلام، قال: «المُرائِي ظاهِرُهُ جَمِيلٌ وَ باطِنُهُ عَلِيلٌ» .
و قال أيضاً: «ما أَقْبَحَ بِالإِنسانِ باطِناً عَلِيلًا وَ ظاهِراً جَمِيلًا» ..
و ما ورد عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله، و عن الأئمّة الهداة، في هذا المجال كثير .
🟢 كتاب الأخلاق في القرآن الجزء الأول 🟢

فلسفة تحريم الرّياء:

قد يتعجّب البعض الذين يعيشون السّذاجة الفكريّة، عند نظرهم و للوهلة الاولى، للروايات التي تتعرض لمسألة الرّياء، و نتائج المرعبة، و يتصورون أنّ عمل الإنسان إذا كان سليماً ومنتجاً في واقعه الخارجي، فأيّاً كانت النيّة و الدّافع، فلن يؤثر ذلك في تغيير العمل، فالذي يبني مُستَشفاً! أو مسجداً أو يعبّد الطّرق و الجسور .. و غيرها من الامور التي تصبّ في الصّالح العام للناس، فعمله صحيحٌ و حسنٌ مهما كانت نيّته، فلْندَع النّاس يفعلوا الخير، وما لنا والنيّة!!

ولكن الخطأ الفادح يكمن هنا لأنّه أولًا : إنّ كلّ عملٍ و فعلٍ يترتب عليه نوعان من ردود الفعل، أحدهما ما ينعكس أثره في نفس الإنسان، والآخر ما يترتب على الفعل في الخارج، فالمُرائي يحطّم نفسه من الدّاخل و يُبعدها عن التّوحيد و الدّين الحنيف، و يوقعها في وادي الشّرك، و يعتبر عزّته و إحترامه رهنٌ بيدَ النّاس، و ينسى‌ قُدَرة الباري تعالى في دائرة التّصرف في عالم الوجود، و بهذا يكون الرّياء نوعاً من الشّرك باللَّه تعالى، و يُفضي إلى نتائج وخيمة على مستوى الأخلاق و القِيَم الإنسانية .

وثانياً : بالنّسبة للعمل الخارجي، الذي يقصد به الرّياء و السّمعة، فالمجتمع هو الخاسر الأوّل في هذا المضمار، لأنّ المرائي يسعى لتحسين عمله، على مستوى الظّاهر فحسب دون الإهتمام بالباطن، ممّا يُفضي إلى تحويل العمل، إلى إنحراف و إفسادٍ على المستوى الإجتماعي .

و بعبارةٍ اخرى: إنّ المجتمع الذي يتّخذ من الرّياءِ مركباً، في ممارسات الأفراد، سيكون كلّ شي‌ءٍ فيه بلا مُحتوى، ك(الثقافة، الإقتصاد، السياسة، الصحة والنظام والقوى الدفاعية) و كلّها ستهتم بالظّاهر فقط، ولا يكون الهدف منها نيل السّعادة الحقيقيّة للأفراد، بل سيركضون وراء كلّ شي‌ءٍ برّاقٍ و جميلِ الظاهر، و أمّا باطنه، فاللَّه العالم.

و هذا النّوع من الإتجاه، يورد صدمات و ضربات و مضرّات في حركة الواقع الإجتماعي، لا تخفى على ذهن الفطن الكيّس .
🟢 كتاب الأخلاق في القرآن الجزء الأول 🟢


علامات المُرائي:

قد يصاب بعض الأشخاص، لدى مطالعتهم لتلك الأحاديث التي تُشدّد على المرائي بالوسَوسة النّاشئة من الإبهام في تشخيص موضوع الرّياء، و رغم أنّ الجَدير بالإنسان التّشديد في مسألة الرّياء، لأنّ نفوذه خفيٌّ جدّاً، وكم حَدَث للإنسان، أن يعمل عملًا ويبقى‌ لفترةٍ طويلةٍ غير ملتفتٍ لأصابته بالرّياء، كالقصّة المعروفة عن أحد المؤمنين السّابقين، حيث نقل عنه، أنّه قضى صلوات جماعته كلّها، التي صلّاها في سنوات من عمره الطويل، ولمّا سألوه عن السّبب قال: إنّي كنت دائماً اصلّي الجماعة في الصّف الأول، وفي يوم من الأيّام تأخّرت‌ بعض الشّي‌ء، فلم أجد مكاناً في الصّف المقدّم، فإضطررت للوقوف خلف الجميع، فشعرت في نفسي بالأذى‌ من ذلك، و تنبّهت لهذه المسألة، فأعدت جميع الصّلوات لأنّها كانت رياء؟!
بالطّبع، الإفراط و التّفريط في هذه المسألة، مَثَلُه كَمَثَلِ بقيّةِ المسائل، غير محمودٍ، و خطأٌ محضٌ، و المفروض التَّنبّه للرياء من خلال تتبع مقدماته و علاماته، و لا نَدع مجالًا للوساوس في إطار إكتشاف هذه الحالة السّلبية، في دائرة السّلوك الخارجي، و الواقع النّفسي، و لعلماء الأخلاق الأفاضل أبحاثٌ لطيفةٌ في هذا المضمار، و منهم العلّامة المرحوم الفَيض الكاشاني؛، فقد طرح سؤالًا في كتابه: «المحجّة البيضاء»، و قال: فبأيّ علامةٍ يُعرف العالم و الواعِظ، أنّه صادق مخلصٌ في وعظه، غير مريدٍ رئاء النّاس ؟.

قال في جواب هذا السؤال: «فاعلم أنّ لذلك علاماتٍ، إحداها أنّه لو ظهر من هو أحسن منه و عظاً و أغزرُ منه علماً، و النّاس له أشدّ قبولًا، فرح به ولم يحسده، نعم لا بأسَ بالغِبطة، و هي : أن يتمنّى لنفسه مثل عمله، والاخرى أنّ الأكابِر إذا حَضروا مجلسه لم يتغيّر كلامه، بل يبقى‌ كما كان عليه، فينظر إلى الخلق بعينٍ واحدةٍ، و الاخرى: أن لا يحبّ إتّباع النّاس له في الطريق، و المشي خلفه في الأسواق، و لذلك علاماتٌ كثيرةٌ يطول إحصاؤها» .

و أفضل المعايير لمعرفة المرائي من غيره، هو ما وردنا عن الأئمّة الأطهار، ومن جملة الأحاديث:

١ - في حديثٍ عن الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله، قال: «أَمّا عَلامَةُ المُرائي فَأرْبَعَةٌ: يَحْرُصُ في العَمَلِ للَّهِ إِذا كانَ عِنْدَهُ أَحَدٌ وَيَكْسَلُ إِذا كانَ وَحْدَهُ وَ يَحْرُصُ في كُلِّ أَمْرِهِ عَلَى‌ الَمحمَدَةِ وَيُحْسِنُ سَمْتَهُ بِجُهْدِهِ» .

٢ - وَ وَرد في نفس هذا المعنى في حديثٍ عن أمير المؤمنين، بألفاظٍ جميلةٍ، فقال: «لِلمُرائي أرْبَعة عَلاماتٍ :
يَكْسَلُ إذا كانَ وَحدَهُ،
وَ يَنْشُطُ إِذا كانَ في النّاسِ،
وَ يَزِيدُ في العَمَلِ إِذا اثنِيَ عَلَيهِ،
وَيَنْقُصُ مِنْهُ إِذا لَمْ يُثْنَ عَلَيهِ» .

و ورد نفس هذا المعنى عن لقمان الحكيم أيضاً .

و خلاصة القول: إنّ كلّ عملٍ، كان القصد منه المباهاة للناس، فهو دليلٌ على الرّياء، و مهما كان هذا القصد غامضاً و خفيّاً في دائرة الوعي، فهو دليلٌ على إزدواجيّة شخصيّة الإنسان في التعامل مع نفسه، في الخلأ والملأ.

و هذا الأمر في الحقيقة بالغ في الدقّة و الغموض، لدرجةٍ أنّ الإنسان يخدع وجدانه و ضميره، بإتيان نفس الأعمال التي يأتي بها في الملأ، و بدرجةٍ عاليةٍ من الجودة و الحُسن، في خلوته ليقنع نفسه أنّه لا يُرائي، لأنّه يساوي بأعماله في الظّاهر والباطن، ولكنّ الحقيقة هي إزدواجيّة ذلك الشّخص، ففي كلا الحالتين يكون مرائياً.
بالطّبع يجب إجتناب الإفراط و التّفريط في هذه المسائل، لأننا وجدنا اناساً إمتنعوا من أداء كثيرٍ من الواجبات‌ و حُرموا من الثّواب حذراً أو خوفاً من الرّياء، فلم يؤلّفوا كتاباً، ولم يرشدوا أحداً من النّاس، ولم يصعدوا المنابر، لا لِشي‌ءٍ إلّا لأنّهم كانوا يعيشون الخوف من الوقوع في الرّياء ؟!
و قد ورد في الرّوايات، أنّ من يقصد القُربة إلى اللَّه تعالى، إذا أتى بعملٍ ما علانيةً، و عرف به الناس وفرح هو من ذلك، ما دام قصده هو التّقرب إلى اللَّه سبحانه و تعالى، فلن يؤثّر ذلك على عمله‌ .

و لا يخفى على القارى‌ء الكريم، أنّ القصد من هذا الأمر، هو تشجيع النّاس إلى سلوك طريق الخير و الصّلاح، و إمضاء أعمالهم المتقرّب بها إلى اللَّه تعالى، في السّر و العلانية، والمهم هو قصد القُربة و إخلاص النيّة فقط .

و جاءت الآيات و الرّوايات، مؤكّدةً لهذا المعنى، وحثّت الإنسان على الإنفاق و التّصدق‌ في السرّ و العلانية، وهذا إن دلّ على شي‌ءٍ فإنّه يدلّ على إمكانيّة الإتيان بالأعمال علانيةً، و بدوافع إلهيّة بعيداً عن الرّياء.
و يوجد خمسُ آياتٍ شجّعت على الإنفاق سرّاً و علانيةً، أو سِرّاً وجهراً .

مضافاً إلى أنّ قسماً كبيراً من العبادات، يؤدّى في العلانية، فإذا مالم يتسلط الإنسان على نفسه في خط الإلتزام الديني، و يُمسك بزمامها في دائرة النّوازع الذاتيّة، فَسيخسر هو و المجتمع كثيراً من أشكال الثّواب و الخير، وستختل أركان بعض العبادات في خطّ الممارسة والعمل .
🟢 كتاب الأخلاق في القرآن الجزء الأول 🟢


علاجُ الرِّياء:

يوجد طريقان لِمُعالجة حالة الرّياء، فالرّياء مَثَلُه كَمَثَلِ سائر الأخلاق السلبيّة و السّلوكيّات الذّميمة، ففي بادى‌ء الأمر، علينا التّركيز على معرفةِ العِلَل، و جذور هذه الحالة السّلبية في الواقع النّفسي، لأجل القضاء عليها، ثم التّحرك نحو دراسة عواقبها المؤلمة، و الكشف عنها في عمليّة التّصدي لها، و توخي جانب الحَذر منها.

بالطّبع لقد أشرنا آنفاً، أنّ الرّياء هو: «الشّرك الأفعالي»، و الغفلة عن حقيقة التّوحيد، فإذا ما تأصلت حقيقة التّوحيد الأفعالي في قلوبنا، و إستحكمت في نفوسنا، و إستيقنّا أنّ العزّة للَّه جميعاً، من موقع المشاهدة الوجدانية، و رأينا أنّ الرّزق والضرّ و النّفع بيده و هو المسخّر للقلوب، فسوف لن نختار سواه بدلًا، ولن نُدنّس أنفسنا و أفعالنا بحالة الرّياء الشّنيعة، التي لا تنسجم مع خطّ التّوحيد في دائرة الأفعال، فالذي يعيش اليقين الرّاسخ بهذه الحقيقة، و هي أنّ مَنْ يكون مع اللَّه تعالى، يكون كلّ شي‌ءٍ معه، و بدونه فهو لا شي‌ء، ويرى بعين البصيرة، مِصداق قوله تعالى: «إِنْ يَنْصُرْكُمْ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ» .

وإذا أدركنا هذه الحقيقة القرآنية التي تقرر أنّ العزّة للَّه‌ تعالى: «أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمْ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ للَّهِ جَمِيعاً» .

أجل إذا ترسّخَ الإيمان بهذه الحقائق الإيمانيّة في أعماق الرّوح، فلا يجد الإنسان في نفسه باعثاً على الرّياء و النّفاق، و كسب الجاه والمقام لدى الناس و المُفاخرة و المُباهاة .

و قال بعض علماء الأخلاق، إنّ دعامة الرّياء وأساسِه هو حبّ الجاه و المُقام، و عند تحليلنا لمفهوم الرّياء، نجد أنّه يتكون من ثلاثة أركانٍ:
«حبّ الثّناء والمدح من الناس»، و «الفرار من مذمّتهم»، و «الطّمع لِما في أيديهم».

ثم يضرب لذلك مثلًا و هو المجاهد في سبيل اللَّه، فتارةً يكون قصدُه المُباهاة و المفاخرة، و إظهار شجاعته وبطولاته للناس، واخرى خوفاً من أن يتّهمه الناس بالجُبن و الخوف، و ثالثةً يكون دافعه الحصول على الغنائم، و الفائز الوحيد، هو الذي يدافع عن الحقّ و الدّين لا غير .

هذا من جهةٍ، و من جهةٍ اخرى، عندما يتأمل الإنسان في سلبيات الرّياء و أضراره ونتائجه القاتلة، نرى أنّه كالنّار التي تقع على عبادات الإنسان و طاعاته، فتحوّلها إلى رماد تذروه الرّياح، ولا يقتصر الأمر على ذلك فحسب، بل هو ذنبٌ عظيمٌ يسوّد وجه صاحبه في الدّنيا و الآخرة ...

الرّياء : حشرة الإرضة التي تَنخر دَعامات بيت سعادة الإنسان، لينهار به في وادٍ سحيقٍ من الشّقاء و الظلّام .

و الرّياء بدوره نوعٌ من أنواع الكفر و النّفاق و الشّرك .

و الرّياء يسحق الشّخصيّة و الحريّة و الكرامة، و أشدّ النّاس بؤساً يوم القيامة، المراؤون.
فهذه حقائقٌ تردع الإنسان، و تبعده عن ذلك الأمر الشّينع.

و لا ننسى أنّ المرائي‌سيفتَضِح، إن عاجلًا أو آجلًا في هذه الدّنيا، و ستظهر حقيقته الزّائفة على فلتات لسانه و شَطحات كلماته، وهذا العامل له قسطٌ من التأثير في عمليّة الرّدع النّفسي،
لحالة الرّياء في واقع الإنسان، مضافاً إلى أنّ لذّة العمل الصالح، و النيّة الطيّبة التي تطرأ على الإنسان، لا تقاس بشي‌ءٍ، و هو أمرٌ يكفي لإخلاص النيّة.

و يعتقد البعض، أنّ إحدى طرق المعالجة، هي السّعي إلى إخفاء العبادات و الحسنات، و لا يُمارسها في العلن، ليتخلّص تدريجيّاً من هذه العقدة المستعصيّة في الذّات المرائيّة.

ولكن هذا لا يعني، عدم الحضور في صلاة الجَماعة و الجُمعة و الحج، لأنّها تعدّ أيضاً خسارةً كُبرى لا تُعوّض .
🟢 كتاب الأخلاق في القرآن الجزء الأول 🟢


هل النّشاط في العبادة يُنافي الإخلاص ؟

يُراود هذا السّؤال أذهان الكثيرين، و هو أنّهم يشعرون بنشاطٍ روحي، بعد الإتيان بالعبادة بالمستوى المطلوب، فهل أنّ هذا الشّعور بالنّشاط، يتقاطع مع الإخلاص، أو أنّه علامةٌ على الرياء ؟

و الجواب : أنّ النّشاط إذا إستمدّ اصوله، من التّوفيق الإلهي و النّور المعنوي المستقى من العبادة، و معطياتها على روح الإنسان، فلا تَثريب ولا ضير، و لا يُنافي الإخلاص في النيّة، أمّا لو كان النّشاط ينشأ من مشاهدة الناس له، فإنّه يُنافي الإخلاص، رغم أنّه لا يكون سبَباً في بُطلان الأعمال، شريطةَ أن لا يتغيّر مقدار و كيفيّة العمل بسبب مشاهدة الناس له.

وَ وَرد هذا المعنى في الرّوايات الإسلاميّة:
منها : ما وَرد عن أحد أصحاب الإمام الباقر عليه السلام، أنّه قال: سألتُ الإمام عليه السلام، عن الرّجل يعمل الشّي‌ء من الخير، فيراه إنسانٌ فيسّره ذلك .

قال عليه السلام : «لا بَأْسَ، ما مِنْ أَحَدٍ إِلا وَهُوَ يُحِبُّ أَنْ يَظْهَرَ لَهُ في النّاسِ الخَيرُ، إذا لَمْ يَكُنْ صَنَعَ ذَلِكَ لذَلِكَ» .

و في حديثٍ آخر عن أبي ذر رحمه الله،- عندما سأل الرّسول الأكرم صلى الله عليه و آله-، قال: قلت يا رسول‌ اللَّه : الرّجل يعملُ العمل لنفسه و يحبّه الناس.
قال صلى الله عليه و آله: «تِلكَ عاجِلُ بُشرى‌ المُؤمِنِ» .
قال الله تعالى : (( قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ )) الرعد ١٦ .

لماذا عبادة الأصنام ؟

كان البيان في الآيات السابقة عن معرفة الله وإثبات وجوده، وهذه الآية تبحث عن ضلال المشركين والوثنيين وتتناوله من عدة جهات، حيث تخاطب - أولا - النبي (صلى الله عليه وآله) حيث تقول : قل من رب السماوات والأرض. ثم تأمر النبي أن يجيب على السؤال قبل أن ينتظر جوابهم قل الله ثم إنه يلومهم ويوبخهم بهذه الجملة قل أفاتخذتم من دونه أولياء لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا.

لقد بين - أولا - عن طريق ربوبيته أنه المدبر والمالك لهذا العالم، ولكل خير ونفع من جانبه، وقادر على دفع أي شر وضر، وهذا يعني أنكم بقبولكم لربوبيته يجب أن تطلبوا كل شيء من عنده لا من الأصنام العاجزة عن حل أية مشكلة لكم. ثم يذهب إلى أبعد من ذلك حيث يقول: إن هذه الأصنام لا تملك لنفسها نفعا ولا ضرا فكيف يمكنها أن تنفعكم أو تضركم ؟ وهم والحال هذه لا يحلون أي عقدة لكم حتى لو قمتم بعبادتهم، فهؤلاء لا يستطيعون تدبير أنفسهم فماذا ينتظر منهم ؟
ثم يذكر مثالين واضحين وصريحين يحدد فيها وضع الأفراد الموحدين والمشركين، فيقول أولا: قل هل يستوي الأعمى والبصير فكما لا يستوي الأعمى والبصير لا يستوي المؤمن والكافر، ولا يصح قياس الأصنام على الخالق جل وعلا.

ويقول ثانيا: أم هل تستوي الظلمات والنور كيف يمكن أن نساوي بين الظلام الذي يعتبر قاعدة الانحراف والضلال، وبين النور المرشد والباعث للحياة، وكيف يمكن أن نجعل الأصنام التي هي الظلمات المحضة إلى جنب الله الذي هو النور المطلق، وما المناسبة بين الإيمان والتوحيد اللذان هما نور القلب والروح، وبين الشرك أصل الظلام ؟!
ثم يدلل على بطلان عقيدة المشركين عن طريق آخر فيقول : أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم والحال ليس كذلك، فإن المشركين أنفسهم لا يعتقدون بها، فهم يعلمون أن الله خالق كل شيء ، وعالم الوجود مرتبط به، ولذلك تقول الآية: قل الله خالق كل شيء وهو الواحد القهار.


بحوث

١ - الخالقية والربوبية يتطلبان العبادة

يمكن أن يستفاد من الآية أعلاه أن الخالق هو الرب المدبر، لأن الخلقة أمر مستمر ودائمي، وليس من خلق الكائنات يتركهم وشأنهم، بل إنه تعالى يفيض بالوجود عليهم باستمرار وكل شيء يأخذ وجوده من ذاته المقدسة، وعلى هذا فنظام الخلقة وتدبير العالم كلها بيد الله، ولهذا السبب يكون هو النافع والضار.
وغيره لا يملك شيء إلا منه، فهل يوجد أحد غير الله أحق بالعبادة ؟

٢ - كيف يسأل ويجيب بنفسه ؟

بالنظر إلى الآية أعلاه يطرح هذا السؤال: كيف أمر الله نبيه أن يسأل المشركين: من خلق السماوات والأرض ؟ وبعدها بدون أن ينتظر منهم الجواب يأمر النبي أن يجيب هو على السؤال ... وبدون فاصلة يوبخ المشركين على عبادتهم الأصنام، أي طراز هذا في السؤال والجواب ؟

ولكن مع الالتفات إلى هذه النقطة يتضح لنا الجواب وهو أنه في بعض الأحيان يكون الجواب للسؤال واضح جدا ولا يحتاج إلى الانتظار. فمثلا نسأل أحدا: هل الوقت الآن ليل أم نهار؟ وبلا فاصلة نجيب نحن على السؤال فنقول:
الوقت بالتأكيد ليل. وهذه كناية لطيفة، حيث أن الموضوع واضح جدا ولا يحتاج إلى الانتظار للجواب، بالإضافة إلى أن المشركين يعتقدون بخلق الله للعالم ولم يقولوا أبدا أن الأصنام خالقة السماء والأرض، بل كانوا يعتقدون بشفاعتهم وقدرتهم على نفع الإنسان ودفع الضرر عنه، ولهذا السبب كانوا يعبدوهم. وبما أن الخالقية غير منفصلة عن الربوبية يمكن أن نخاطب المشركين بهذا الحديث ونقول: أنتم الذين تقولون بأن الله خالق، يجب أن تعرفوا أن الربوبية لله كذلك، ويختص بالعبادة أيضا لذلك.
٣ - العين المبصرة ونور الشمس شرطان ضروريان

يشير ظاهر المثالين (الأعمى والبصير) و (الظلمات والنور) إلى هذه الحقيقة، وهي أن النظر يحتاج إلى شيئين: العين المبصرة، وشعاع الشمس، بحيث لو انتفى واحد منهما فإن الرؤية لا تتحقق، والآن يجب أن نفكر : كيف حال الأفراد المحرومين من البصر والنور ؟ المشركون المصداق الواقعي لهذا، فقلوبهم عمي ومحيطهم ملئ بالكفر وعبادة الأصنام، ولهذا السبب فهم في تيه وضياع. وعلى العكس فالمؤمنون بنظرهم إلى الحق، واستلهامهم من نور الوحي وإرشادات الأنبياء عرفوا مسيرة حياتهم بوضوح .

٤ - هل أن خلق الله لكل شيء دليل على الجبر ؟

استدل جمع من أتباع مدرسة الجبر أن جملة الله خالق كل شيء في الآية أعلاه لها من السعة بحيث تشمل حتى عمل الأفراد، فالله خالق أعمالنا ونحن غير مختارين.
يمكن أن نجيب على هذا القول بطريقين:
أولا: الجمل الأخرى للآية تنفي هذا الكلام، لأنها تلوم المشركين بشكل أكيد فإذا كانت أعمالنا غير اختيارية، فلماذا هذا التوبيخ ؟! وإذا كانت إرادة الله أن نكون مشركين فلماذا يلومنا ؟! ولماذا يسعى بالأدلة العقلية لتغيير مسيرتهم من الضلالة إلى الهداية ؟ كل هذا دليل على أن الناس أحرار في انتخاب طريقهم.

ثانيا: إن الخالقية بالذات من مختصات الله تعالى. ولا يتنافى مع اختيارنا في الأفعال، لأن ما نمتلكه من القدرة والعقل والشعور، وحتى الاختيار والحرية، كلها من عند الله، وعلى هذا فمن جهة هو الخالق (بالنسبة لكل شيء وحتى أفعالنا) ومن جهة أخرى نحن نفعل باختيارنا، فهما في طول واحد وليس في عرض وافق واحد، فهو الخالق لكل وسائل الأفعال، ونحن نستفيد منها في طريق الخير أو الشر.
فمثلا الذي يؤسس معملا لتوليد الكهرباء أو لإنتاج أنابيب المياه، يصنعها ويضعها تحت تصرفنا، فلا يمكن أن نستفيد من هذه الأشياء إلا بمساعدته، ولكن بالنتيجة يكون التصميم النهائي لنا، فيمكن أن نستفيد من الكهرباء لإمداد غرفة عمليات جراحية وإنقاذ مريض مشرف على الموت، أو نستخدمها في مجالس اللهو والفساد، ويمكن أن نروي بالماء عطش إنسان ونسقي وردا جميلا، أو نستخدم الماء في إغراق دور الناس وتخريبها .
قال الله تعالى : إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا (١١٧) لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (١١٨) وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا (١١٩) يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (١٢٠) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا (١٢١)  النساء .

مكائد الشيطان :

إن الآية الأولى - من مجموع الآيات الخمس الأخيرة - تشرح أوضاع المشركين الذين أشارت إليهم الآية السابقة لهذه الأخيرة، وهذه الآية إنما تبين سبب ضلال المشركين، فتذكر أنهم يعانون من ضيق شديد في أفق تفكيرهم، إذ يتركون عبادة الله خالق ومنشئ عالم الوجود الوسيع، ويخضعون أمام المخلوقات التي لا تملك أقل أثر إيجابي في الوجود، بل هي - أحيانا مضللة كالشيطان : إن يدعون من دونه إلا إناثا وإن يدعون إلا شيطانا مريدا.

ومما يلفت النظر أن هذه الآية تحصر أصنام المشركين بنوعين من المخلوقات هما " إناث " و " شيطان مريد ".
وكلمة " إناث " مشتقة من المصدر " أنث " على وزن " أدب " وتعني المخلوق الرقيق اللطيف والمرن، ولهذا السبب فإن العرب تقول: " أنث الحديد " إذا لان في النار، وقد سمي جنس المرأة ب‍ " الإناث " لأنها أكثر رقة ولطفا ولينا من الرجل.
لكن بعض المفسرين يرى هنا - أن القرآن يشير في هذه الآية إلى أصنام كانت معروفة لدى قبائل العرب حيث انتخبت كل قبيلة صنما من هذه الأصنام ووضعت له اسما مؤنثا. فالصنم " اللات " سمي هكذا ليكون مؤنثا لكلمة لفظ الجلالة " الله "، أما الصنم " عزى " فهو مؤنث كلمة " أعز " وكذلك أصنام أخرى مثل " مناة " و " نائله " وأمثالها.

بينما يرى بعض اخر من كبار المفسرين أن القصد من كلمة " إناث " الواردة في الآية ليس المعنى المعروف بالمؤنث، بل أن القصد منها هو الجذر اللغوي الذي اشتقت منه هذه اللفظة، أي أن المشركين يعبدون مخلوقات ضعيفة ومطاوعة بين يدي الإنسان، وأن وجود هذه المخلوقات بكاملها قابل للتأثر والانحناء أمام الأحداث، وبعبارة أوضح: أنها موجودات لا تملك الإرادة والاختيار ولا تنفع ولا تضر شيئا أبدا.

أما كلمة " مريد " وهي من حيث الجذر اللغوي مأخوذة من مادة " مرد " بمعنى سقوط أوراق وأغصان الشجر، ولهذا سمي الشاب اليافع الذي لم ينبت الشعر في وجهه بالأمرد، وعلى هذا فإن الشيطان المريد يعني ذلك الشيطان الذي سقطت منه جميع صفات الفضيلة، ولم يبق في وجوده شيء من مصادر القوة.
أو قد تكون هذه الكلمة مأخوذة من الأصل " مرود " بمعنى الطغيان والجبروت، أي أن معبود هؤلاء الوثنيين هو شيطان متكبر متجبر.
والحقيقة أن القرآن قسم أصنام هؤلاء المشركين إلى نوعين: بعضها ضعيف الإرادة مطلقا، والبعض الآخر طاغ متكبر متجبر، لكي يبين أن الذي يسلم قياده ويخضع لمثل هذه الأصنام إنما يعيش في ضلال واضح مبين.
بعد ذلك كله تشير الآية إلى صفات الشيطان وأهدافه وعدائه الخاص لأبناء آدم وتتناول بالشرح بعضا من خططه الدنيئة، وقبل كل شيء تؤكد أن الله قد أبعد الشيطان عن رحمته لعنه الله.

وفي الحقيقة فإن أساس شقاء وتعاسة الشيطان هو البعد عن رحمة الله، التي أصابته بسبب غروره وتكبره المفرطين، وبديهي أن من يكون بعيدا عن رحمة الله كالشيطان، يكون خاويا من كل خير أو حسن، ولا يمكنه أن يترك خيرا أو حسنا في حياة غيره، وفاقد الشيء لا يعطيه، فهو لن يكون غير نافع فحسب، بل سيكون ضارا أيضا.

ثم تذكر الآية التالية أن الشيطان قد أقسم على أن ينفذ بعضا من خططه:
أولها: أن يأخذ من عباد الله نصيبا معينا، حيث تقول الآية حاكية قول الشيطان: وقال لأتخذن من عبادك نصيبا مفروضا فالشيطان يعلم بعجزه عن اغواء جميع عباد الله، لأن من يستسلم لإرادة الشيطان ويخضع له هم فقط أولئك المنجرفون وراء الأهواء والنزوات، والذين لا إيمان لهم، أو ضعاف الإيمان.
والثانية: خطط الشيطان تلخصها الآية بعبارة: ولأضلنهم.
والثالثة: اشغلهم بالأمنيات العريضة وطول الأمل ولأمنينهم .
أما الخطة الرابعة: ففيها يدعو الشيطان اتباعه إلى القيام بأعمال خرافية، مثل قطع أو خرق أذان الحيوانات كما جاء في الآية: ولآمرنهم فليبتكن أذان الأنعام وهذه إشارة لواحد من أقبح الأعمال التي كان يرتكبها الجاهليون المشركون، حيث كانوا يقطعون أو يخرقون أذان بعض المواشي، وكانوا يحرمون على أنفسهم ركوبها بل يحرمون أي نوع من أنواع الانتفاع بهذه الحيوانات.
وخامس: الخطط التي أقسم الشيطان أن ينفذها ضد الإنسان، هي ما ورد على لسانه في الآية إذ تقول: ولآمرنهم فليغيرن خلق الله... وهذه الجملة تشير إلى أن الله قد أوجد في فطرة الإنسان منذ خلقة إياه - النزعة إلى التوحيد وعبادة الواحد الأحد، بالإضافة إلى بقية الصفات والخصال الحميدة الأخرى، ولكن وساوس الشيطان والانجراف وراء الأهواء والنزوات تبعد الإنسان عن الطريق المستقيم الصحيح، وتحرفه إلى الطرق المعوجة الشاذة.
والشاهد على ذلك والقول أيضا الآية (٣٠) من سورة الروم، إذ تقول: فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم.
ونقل عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه فسره بأن القصد من التغيير المذكور في هذه الآية من سورة النساء هو تغيير فطرة الإنسان وحرفها عن التوحيد وعن أمر الله .

وهذا الضرر الذي لا يمكن التعويض عنه، يلحقه الشيطان بأساس سعادة الإنسان، لأنه يعكس له الحقائق والوقائع ويستبدلها بمجموعة من الأوهام والخرافات والوساوس التي تؤدي إلى تغيير السعادة بالشقاء للناس، وقد أكدت الآية في آخرها مبدأ كليا، وهو أن أي إنسان يعبد الشيطان ويجعله لنفسه وليا من دون الله، فقد ارتكب إثما وذنبا واضحا إذ تقول الآية: ومن يتخذ الشيطان وليا من دون الله فقد خسر خسرانا مبينا.

والآية التي تلت هذه الآية جاءت ببعض النقاط بمثابة الدليل على ما جاءت به الآية السابقة حيث ذكرت أن الشيطان يستمر في إعطائه الوعود الكاذبة لأولئك ويمنيهم الأمنيات الطوال العراض، ولكنه لا يفعل شيئا بالنسبة لهؤلاء غير الإغواء والخداع: يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا .

وبينت آخر آية من الآيات الخمس الأخيرة مصير اتباع الشيطان، بأنهم ستكون نتيجتهم السكنى في جهنم التي لا يجدون منها مفرا أبدا، فتقول الآية:
أولئك مأواهم جهنم ولا يجدون عنها محيصا .
قال الله تعالى : (( ... وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِینَ حَتَّىٰ نَبۡعَثَ رَسُولࣰا )) الإسراء ١٥ .

هناك نقاش بين المفسرين حول نوع العذاب المقصود هنا، وهل هو نوع من أنواع العذاب الذي يقع في الدنيا أو في الآخرة، أم المقصود به هو عذاب " الإستيصال " الذي يعني العذاب الشامل المدمر كطوفان نوح مثلا؟

إن ظاهر الآية الكريمة يدل على الإطلاق، وهو بالتالي يشمل كل أنواع العذاب .

وهناك نقاش آخر - أيضا - بين المفسرين حول قاعدة وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا وهل أن الحكم فيها يخص المسائل الشرعية التي يعتمد فهمها على الأدلة النقلية فقط، أو أنه يشمل جميع المسائل العقلية والنقلية في الأصول والفروع ؟

في الواقع، إذا أردنا العمل بظاهر الآية الذي يفيد الإطلاق، فينبغي القول أنها تشمل جميع الأحكام العقلية والنقلية، سواء ارتبطت بأصول أو فروع الدين .

ومفهوم هذا الكلام أنه حتى في المسائل العقلية البحتة التي يقطع " العقل المستقل " بحسنها وقبحها مثل حسن العدل وقبح الظلم، فإنه ما لم يأت الأنبياء، ويؤيدون حكم العقل بحكم النقل، فإن الله تبارك وتعالى لا يجازي أحدا بالعذاب. للطفه ورحمته بالعباد.

ولكن هذا الموضوع مستبعد وضعيف الاحتمال، لأنه يصطدم مع قاعدة أن المستقلات العقلية لا تحتاج إلى بيان الشرع، وحكم العقل في إتمام الحجة في هذه الموارد يعتبر كافيا ومجزيا، لذلك فلا طريق أمامنا إلا أن نستثني المستقلات العقلية عن مجال عمل القاعدة المذكورة.

وإذا لم نستثن ذلك فسيكون معنى العذاب في هذه الآية هو " عذاب الإستيصال " وسيكون المفاد الأخير للمعنى هو أن الله سبحانه وتعالى لرحمته ولطفه بالعباد لا يهلك الظالمين والمنحرفين إلا بعد أن يبعث الأنبياء، وتستبين جميع طرق السعادة والهداية، حتى تطابق حجة الشرع حجة العقل المستقل، وتتم الحجة بذلك من طريقي العقل والنقل (فتأمل ذلك) .
💍 دروس في تفسير القرآن 💍
🟢 كتاب الأخلاق في القرآن الجزء الأول 🟢 هل النّشاط في العبادة يُنافي الإخلاص ؟ يُراود هذا السّؤال أذهان الكثيرين، و هو أنّهم يشعرون بنشاطٍ روحي، بعد الإتيان بالعبادة بالمستوى المطلوب، فهل أنّ هذا الشّعور بالنّشاط، يتقاطع مع الإخلاص، أو أنّه علامةٌ على الرياء…
🟢 كتاب الأخلاق في القرآن الجزء الأول 🟢

ما الفرق بين الرّياء و السّمعة :

هذا سؤال يفرض نفسه أيضاً، فهل يوجد فرق بين الرّياء و السّمعة ؟، و هل أنّهما يتنافيان مع إخلاص النيّة، و يوجبان بطلان العمل ؟.

الجواب: الرّياء: هو فعل الخير أمام مرآى و مسمع من النّاس، لكسب الوجاهة لديهم، و ليشار إليه بالبنان من موقع المدح و الثّناء.

و أمّا السّمعة، فهي أداء أفعال الخير بعيداً عن أنظار النّاس، ولكن لِيُفهمَهم لاحقاً أنّه هو الذي فعل هذه الامور، ليكتسب بذلك و جاهةً لديهم، والحقيقة أن الدّافع لِكِلا الإثنين غير إلهي، فالأوّل يؤدّي عمل الخير أمام مرآى الناس، و الثّاني بصورةٍ غير مُباشرةٍ و عن طريق السّماع، ولا فرق بينهما في دائرة فساد النيّة، و بطلان العمل و فقدان قصد القربة.

ولكن إذا فسّرنا السمعة بأنّها أداء الفعل بقصد القُربّة، ولكن إذا علم النّاس في الآجل و مدحوه و أثنوا عليه، فإنّه يفرح بذلك، فلا شكَّ بأنّ هذه الحالة لا توجب بُطلان العمل.

و يمكن أن يتحرك الإنسان في سلوكيّاته و أعماله، بقصد القُربة المطلقة، ولكنّه يرويها للناس بعد ذلك‌ ليحتل مكانةً بينهم، «و هذا العمل يُسمى بالرّياء اللّاحق»، فهذا السّلوك أيضاً لا يُبطل العمل، لكنّه يُقِّلل من قيمته إلى أدنى حدّ، وخصوصاً من النّاحية الأخلاقيّة.

و قد تحدّث بعض من كبار الفُقهاء، عن كيفيّة نفوذ و توغّل الرّياء في أعمال الإنسان، و قالوا أنّها على عَشرِ صُوَرٍ:
الصّورة الاولى : أن يكون قصده من الفعل: مشاهدة النّاس له، و لا شكّ ببطلانها .

الصورة الثّانية : أن يكون الهدف فيها الباري تعالى، و الرّياء مَعاً، و هذه الحالة أيضاً موجِبةُ: للبطلان و الإحباط.

الثّالثة : أن يُرائي في جزءٍ من الأعمال الواجبة، كما لو مارس الرّياء في الرّكوع، أو السّجود وحده في الصّلاة الواجبة، و لا شك في كونه يستوجب البُطلان، حتى لو كان هناك مجالًا للإستدراك، و حاله حالَ ما لو فقد وضوءه وهو في أثناء الصّلاة، و إن كان الأحوط أن يأتي بالجزء الذي وقع فيه الرّياء، ثم إعادة الصّلاة بعد الإنتهاء.

الصّورة الرّابعة : الرّياء في الجزء المستحب، كما في القُنوت، فهو أيضاً من دواعي البُطلان.

الخامسة : أصلُ العمل و القَصد، يكون اللَّه تعالى، ولكنّه يؤدّيه في مكانٍ عام: (كالمسجد)، من دون قصد ربّاني فيه، وهو باطلٌ أيضاً.

السّادسة : أن يُرائي في وقت العمل، فأصل الصّلاة للَّه‌ تعالى، و لكنّه يُرائي في أدائها في أوّل وقتها، فعمله باطلٌ أيضاً.

السّابعة : أن يُرائي في بعض خُصوصيات و أوصاف العمل، كما لو صلّى الجماعة، و هو في حالةٍ من الخشوع والخضوع المُفتعلة، وهو باطلٌ أيضاً، فالموصوف يتبع الأوصاف في هذه الحالة.

الثّامنة : أن تأتي بالعمل قربةً إلى اللَّه، ولكنّه يرائي في مقدّمات العمل، فيذهب إلى المسجد بقصد الصّلاة و الثّواب، ولكنّ حركته نحو المسجد بقصد الرّياء. فالكثير من الفُقهاء لا يرون بُطلان العمل لمثل هذا النوع من الرّياء، لأنّ مقدّمات الرّياء حدثت بعيداً عن العمل، وهو ما تقتضيه القاعدة الفِقهيّة.

التّاسعة : أن يُؤدّي بعض الأوصاف الخارجيّة بنيّة الرّياء، كما لو صلّى للَّهِ تعالى، ولكنّه يحنّك نفسه رياءً، فالبِّرغم من قبح هذا العمل، ولكنّه لا يُبطل الصلاة .

عاشراً و أخيراً : أن يتحرّك في إتيانه بالعمل، من موقع القربة المطلقة للَّه‌ تعالى، ولكن إذا
شاهده الناس، فإنّه يشعر في قرارة نفسه بالفرح، من دون أن يؤثّر ذلك على كيفيّة العمل، فهذا القسم لا يوجب البُطلان أيضاً، لأنّه لا يعدّ من الرّياء .

و نصل هنا إلى نهاية بحثنا حول الرّياء، و إن كنّا قد أعرضنا عن كثيرٍ من الامور، إجتناباً للتّطويل .
قال الله تعالى :《قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى (٦٥) قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى (٦٦) فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى (٦٧) قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى (٦٨) وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى (٦٩) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى (٧٠)》 طه .

موسى (عليه السلام) ينزل إلى الساحة:

لقد اتحد السحرة ظاهرا، وعزموا على محاربة موسى (عليه السلام) ومواجهته، فلما نزلوا إلى الميدان قالوا يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون أول من ألقى.
قال بعض المفسرين : إن اقتراح السحرة هذا إما أن يكون من أجل أن يسبقهم موسى (عليه السلام)، أو إنه كان احتراما منهم لموسى، وربما كان هذا الأمر هو الذي هيأ السبيل إلى أن يذعنوا لموسى (عليه السلام) ويؤمنوا به بعد هذه الحادثة.
إلا أن هذا الموضوع يبدو بعيدا جدا، لأن هؤلاء كانوا يسعون بكل ما أوتوا من قوة لأن يسحقوا ويحطموا موسى ومعجزته، وبناء على هذا فإن التعبير آنف الذكر ربما كان لإظهار اعتمادهم على أنفسهم أمام الناس .
غير أن موسى (عليه السلام) بدون أن يبدي عجلة، لاطمئنانه بأن النصر سوف يكون حليفه، بل وبغض النظر عن أن الذي يسبق إلى الحلبة في هذه المجابهات هو الذي يفوز قال بل ألقوا. ولا شك أن دعوة موسى (عليه السلام) هؤلاء إلى المواجهة وعمل السحر كانت مقدمة لإظهار الحق، ولم يكن من وجهة نظر موسى (عليه السلام) أمرا مستهجنا، بل كان يعتبره مقدمة لواجب.
فقبل السحرة ذلك أيضا، وألقوا كل ما جلبوه معهم من عصي وحبال للسحر في وسط الساحة دفعة واحدة، وإذا قبلنا الرواية التي تقول: إنهم كانوا آلاف الأفراد، فإن معناها أن في لحظة واحدة القيت في وسط الميدان آلاف العصي والحبال التي ملئت أجوافها بمواد خاصة فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى!
أجل، لقد ظهرت بصورة أفاع وحيات صغيرة وكبيرة متنوعة، وفي أشكال مختلفة ومخيفة، ونقرأ في الآيات الأخرى من القرآن الكريم في هذا الباب:
سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاؤوا بسحر عظيم . وبتعبير الآية (٤٤) من سورة الشعراء: وقالوا بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون.
لقد ذكر كثير من المفسرين أن هؤلاء كانوا قد جعلوا في هذه الحبال والعصي موادا كالزئبق الذي إذا مسته أشعة الشمس وارتفعت حرارته وسخن، فإنه يولد لهؤلاء - نتيجة لشدة فورانه - حركات مختلفة وسريعة " إن هذه الحركات لم تكن سيرا وسعيا حتما، إلا أن إيحاءات السحرة التي كانوا يلقنونها الناس، والمشهد الخاص الذي ظهر هناك، كان يظهر لأعين الناس ويجسد لهم أن هذه الجمادات قد ولجتها الروح، وهي تتحرك الآن. (وتعبير سحروا أعين الناس إشارة إلى هذا المعنى أيضا، وكذلك تعبير يخيل إليه يمكن أن يكون إشارة إلى هذا المعنى أيضا).
على كل حال، فإن المشهد كان عجيبا جدا، فإن السحرة الذين كان عددهم كبيرا، وتمرسهم وإطلاعهم في هذا الفن عميقا، وكانوا يعرفون جيدا طريقة الاستفادة من خواص هذه الأجسام الفيزيائية والكيميائية الخفية، استطاعوا أن ينفذوا إلى أفكار الحاضرين ليصدقوا أن كل هذه الأشياء الميتة قد ولجتها الروح.
فعلت صرخات السرور من الفراعنة، بينما كان بعض الناس يصرخون من الخوف والرعب، ويتراجعون إلى الخلف.
في هذه الأثناء فأوجس في نفسه خيفة موسى وكلمة " أوجس " أخذت من مادة (إيجاس) وفي الأصل من (وجس) على وزن (حبس) بمعنى الصوت الخفي، وبناء على هذا فإن الإيجاس يعني الإحساس الخفي والداخلي، وهذا يوحي بأن خوف موسى الداخلي كان سطحيا وخفيفا، ولم يكن يعني أنه أولى اهتماما لهذا المنظر المرعب لسحر السحرة، بل كان خائفا من أن يقع الناس تحت تأثير هذا المنظر بصورة يصعب معها إرجاعهم إلى الحق.
أو أن يترك جماعة من الناس الميدان قبل أن تتهيأ الفرصة لموسى لإظهار معجزته، أو أن يخرجوهم من الميدان ولا يتضح الحق لهم، كما نقرأ في خطبة الإمام علي (عليه السلام) الرقم (٦) من نهج البلاغة: " لم يوجس موسى (عليه السلام) خيفة على نفسه، بل أشفق من غلبة الجهال ودول الضلال " . ومع ما قيل لا نرى ضرورة لذكر الأجوبة الأخرى التي قيلت في باب خوف موسى (عليه السلام).
على كل حال، فقد نزل النصر والمدد الإلهي على موسى في تلك الحال، وبين له الوحي الإلهي أن النصر حليفه كما يقول القرآن: قلنا لا تخف إنك أنت الأعلى. إن هذه الجملة وبتعبيرها المؤكد قد أثلجت قلب موسى بنصره المحتم - فإن (إن) وتكرار الضمير، كل منهما تأكيد مستقل على هذا المعنى، وكذلك كون الجملة اسمية - وبهذه الكيفية، فقد أرجعت لموسى اطمئنانه الذي تزلزل للحظات قصيرة .
وخاطبه الله مرة أخرى بقوله تعالى: وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا إنما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى .

" تلقف " من مادة " لقف " بمعنى البلع، إلا أن الراغب يقول في مفرداته: إن معناها في الأصل تناول الشيء بحذق، سواء في ذلك تناوله باليد أو الفم. وفسرها بعض اللغويين بأنها التناول بسرعة.
ومما يلفت النظر أنه لم يقل (الق عصاك) بل يقول (الق ما في يمينك) وربما كان هذا التعبير إشارة إلى عدم الاهتمام بالعصا، وإشارة إلى أن العصا ليست مسألة مهمة، بل المهم إرادة الله وأمره، فإنه إذا أراد الله شيئا، فليست العصا فقط، بل أقل وأصغر منها قادر على إظهار مثل هذه المقدرة!

وهنا نقطة تستحق الذكر أيضا وهي: إن كلمة (ساحر) في الآية وردت أولا نكرة، وبعدها معرفة بألف ولام الجنس، وربما كان هذا الاختلاف لأن الهدف في المرتبة الأولى هو عدم الاهتمام بعمل هؤلاء السحرة، ومعنى الجملة: إن العمل الذي قام به هؤلاء ليس إلا مكر ساحر. أما في المورد الثاني فقد أرادت التأكيد على أصل عام، وهو أنه ليس هؤلاء السحرة فقط، بل كل ساحر في كل زمان ومكان وأينما وجد سوف لا ينتصر ولا يفلح .
قال الله تعالى : 《وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (٥٤) أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَلَا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (٥٥) هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٥٦)》يونس .

لا معنى للشك في العذاب الإلهي:

كان البحث في الآيات السابقة عن جزاء وعقاب المجرمين في هذه الدنيا والعالم الآخر، وتكمل هذه الآيات هذا البحث أيضا.
فالآية الأولى تقول : إن هؤلاء يسألونك بتعجب واستفهام عن حقيقة هذا الوعيد بالعذاب الإلهي في هذا العالم والعالم الآخر : ويستنبئونك أحق هو ومن المعلوم أن " الحق " هنا ليس في مقابل الباطل، بل المراد منه هو : هل إن لهذه العقوبة حقيقة وواقعا وأنها ستتحقق ؟ لأن الحق والتحقق مشتقان من مادة واحدة ، ومن البديهي أن الحق في مقابل الباطل بهذا المعنى الواسع سيشمل كل واقع موجود ، وستكون النقطة المقابلة له كل معدوم وباطل .

ويأمر الله سبحانه نبيه أن يجيبهم على هذا السؤال بما أوتي من التأكيد: قل أي وربي إنه لحق وإذا ظننتم أنكم تستطيعون أن تفلتوا من قبضة العقاب الإلهي فأنتم على خطأ كبير : وما أنتم بمعجزين.

الواقع إن هذه الجملة مع الجملة السابقة من قبيل بيان المقتضي والمانع، ففي الجملة الأولى يقول: إن عذاب المجرمين أمر واقعي، ويضيف في الجملة الثانية أن أية قدرة لا تستطيع أن تقف أمامه، تماما كالآيات (٨) - (٩) من سورة الطور:
إن عذاب ربك لواقع ما له من دافع.

إن التأكيدات التي تلاحظ في الآية تستحق الانتباه، فمن جهة القسم، ومن جهة أخرى إن ولام التأكيد، ومن جهة ثالثة جملة وما أنتم بمعجزين وكل هذه توكد على أن العقاب الإلهي حتمي عند ارتكاب الكبائر.

وتوكد الآية الأخرى على عظمة هذه العقوبة، وخاصة في القيامة، فتقول: ولو أن لكل نفس ظلمت ما في الأرض لافتدت به . في الواقع إن هؤلاء مستعدون لأن يدفعوا أكبر رشوة يمكن تصورها من أجل الخلاص من قبضة العذاب الإلهي، لكن لا أحد يقبل من هؤلاء شيئا، ولا ينقص من عذابهم مقدار رأس إبرة، خاصة وأن لبعض هذه العقوبات صبغة معنوية، وهي أنهم: يرون العذاب والفضيحة في مقابل أتباعهم مما يوجب لهم اظهار الندم مزيدا من الخزي والعذاب النفسي فلذلك يحاولون عدم ابراز الندم : وأسروا الندامة لما رأوا العذاب.

ثم توكد الآية على أنه بالرغم من كل ذلك، فإن الحكم بين هؤلاء يجري بالعدل، ولا يظلم أحد منهم: وقضي بينهم بالقسط وهم لا يظلمون. إن هذه الجملة تأكيد على طريقة القرآن دائما في مسأله العقوبة والعدالة، لأن تأكيدات الآية السابقة في عقاب المذنبين يمكن أن توجد لدى الأفراد الغافلين توهم أن المسألة مسألة انتقام، ولذا فإن القرآن يقول أولا إن الحكم بين هؤلاء يجري بالقسط، ثم يؤكد على أن أي أحد من هؤلاء سوف لا يظلم.

ثم، ومن أجل أن لا يأخذ الناس هذه الوعود والتهديدات الإلهية مأخذ الهزل، ولكي لا يظنوا أن الله عاجز عن تنفيذ هذه الوعود، تضيف الآية: ألا إن لله ما في السماوات والأرض ألا إن وعد الله حق ولكن أكثرهم لا يعلمون لأن جهلهم قد حجب بصيرتهم وجعل عليها غشاوة فلم يعوا الحقيقة.

وتوكد آخر آية على هذه المسألة الحياتية مرة أخرى، حيث تقول : هو يحيي ويميت وبناء على ذلك فإن له القدرة على إماتة العباد، كما أن له القدرة على إحيائهم لمحكمة الآخرة، وفي النهاية: وإليه ترجعون وستلاقون جزاء كل أعمالكم هناك .


ملاحظتان

١ - من جملة الأسئلة التي تطرح في مورد الآيات أعلاه: هل أن لسؤال المشركين عن واقعية العقاب الإلهي صفة الاستهزاء، أم أنه كان سؤالا حقيقيا؟

ذهب البعض إلى أن السؤال الحقيقي علامة الشك، وهو لا يناسب وضع المشركين، إلا أنه بملاحظة أن كثيرا من المشركين كانوا في حالة تردد، وجماعة منهم أيضا كانوا على علم بأحقية النبي (صلى الله عليه وآله)، وقد وقفوا ضده نتيجة التعصب والعناد وأمثال ذلك، فسيبدو واضحا أن كون سؤال هؤلاء حقيقيا ليس بعيدا أبدا.

٢ - إن حقيقة الندامة هي الندم على ارتكاب عمل اتضحت آثاره السلبية سواء استطاع الإنسان أن يجبر ذلك أم لا، وندم المجرمين في القيامة من النوع الثاني، وإنما كتموه لأن إظهاره سيزيد من فضيحتهم .
2024/06/02 10:03:28
Back to Top
HTML Embed Code: