tg-me.com/amaliketeladab/3020
Last Update:
لما سمعت الشيخ رحمه الله ينشد تلك الأبيات، تمثلت لعيني تلك المأساة الخالدة بين الرجل الصادق والمرأة التي احبها، وكانت تطمع أن يكون لها كما خيلت لها أوهامها، وان يأتيها بتحقيق أحلامها - أي أحلام حواء منذ كانت حواء، على اختلاف العصور وتباين الحضارات. فهذا أعرابي محب لصاحبته (اميمة) التي ذكرها في شعره، فدارت به الأيام في فيافي الحياة ملتمسا ما يحقق به أماني هذه المرأة المحبوبة، ثم عاد إليها وقد أذابت البيد منه ما أذابت بظمئها وشمسها وجوعها ومخاوفها. فلما رأته شاحباً مهزولا رثا أسوأ حالا مما عهدته، أنكرته وقد أثبتته معرفة، فجن جنونها لأنها محبة قد أخطأت في الرجل الذي تحب كل ما كانت تؤمله، وخانها ما كانت تتمثله في أحلامها من صحة وشباب وأناقة وجمال. وما أسرع ما تتنكر المرأة إذا خاب ظنها وتبددت أحلامها، وفاجأتها الحقيقة العارية بالشيء الذي يخال ما كانت تتوهم!
كانت المفاجأة صارخة في نفس اميمة، فلم تلبث أن غلبتها تلك الطبيعة المتقلبة الغدارة التي طال عهد المرأة بها، فأظهرت كأنها لا تعرفه ولم تلقه ساعة من دهر. وجرى على لسانها ذلك الحديث الذي يرويه لنا المحب، فقالت: من أي الناس أنت؟ ولم تقف عند هذا فأبدت الفزع منه لئلا يخونها ما في حنايا ضلوعها فيظهر على لسانها فعادت تقول: ومن تكن؟ ولكن أنى للمرأة الضعيفة التي زلزلت المفاجأة بنيانها أن تكتم حقيقة نفسها؟ لقد كانت منذ هنيهة تسأله سؤال الجاهل من هو ومن يكون، فإذا بها تنهار من شدة ما تعاني من اهتزاز كيانها، فتقول له مقالة الناقد الساخر، محاولة أن تبدي عن احتقارها وازدراءها لما ترى، فزوت عنه وجهها وهي تقول: لو كنت راعي ابل لكنت خليقاً أن تنكر النفوس والأعين ما ترى من حقارتك وبذاذتك، فكيف ترجو أيها المحب المغرور أن تكون حسناً في عين من تحب، وان تكون زيناً لامرأة احبتك؟ وهكذا المرأة - إلا من عصم الله. . .
فهم الشاعر المحب مرمى كلامها فأنف لنفسه، فانطلق يسخر منها بعد أن تكشف له ضمير المرأة الغادرة. فقال لها: ليس الشحوب على الفتى بعار، ولا خير الرجال سمينها، وإذا كان شحوبي قد ساءت وآذاك حتى أنكرت مني ما تعرفين، فنعم ولك العتبى علي. عليك بمن يزينك. اطلبي لنفسك راعي غنم قد اطمأنت به وبها الحياة، فعاش خافضاً وادعاً لا هم له إلا بطنه، حتى امتلأ وتضلع وغدا سميناً بضاً جميلًا كأحسن ما تأملين، فأنتن أيها النسوة إنما تحببن من الرجال الزينة وحدها، كأنكن إنما تتخذن الرجال حلياً لا أصحاباً ولا أزواجاً. وهكذا المرأة، هي لضعفها تؤثر لحياتها كل ظاهر يدل على القوة فهي تؤثر البدن القوي على البدن الضعيف، وتؤثر اليسر على الخصاصة، وتؤثر القناعة على الطموح، وان كان قلبها يؤثر بالحب ذلك الضعيف الفقير الطماح الذي اضر به الكدح، ولكن قلب المرأة هو آخر ما تهتم له إذا جاءها بمن لا ترضاه لحياتها؛ فالمرأة مفتونة بكل ما يدل على القوة الظاهرة، ولا تكاد تبالي شيئاً بالقوة المستكنة كالعلم والعقل والجهاد والصبر؛ لأنها تريد أن تحيا حياة مطمئنة محفوفة بما يحسدها علية النساء سواها لا أن تحيا مجاهدة في عذاب حبيب مجاهد.
ومنذ سمعت الشيخ ينشد تلك الأبيات، وقفت على كلمة في هذا الشعر لا أزال اعجب لها وهي: (أبكار الهموم وعونه) (أبكار الهموم)! يالها من كلمة عبقرية! أن مزية هؤلاء الأعراب البداة على سائر من نطق بالعربية هي هذه الجرأة العجيبة التي تنقض على اللغة فتنفضها نفضاً وتختار من ألفاظها كلمة تضعها حيث تشاء، فلا تراها تقلق في مكانها أو تضطرب، وهم بذلك يختصرون المعاني كلها في كلمة واحدة يخبئون فيها أحلامهم وخيالهم وأحاسيسهم وأسرار قلوبهم، كما خبا هذا الأعرابي كل ما كان في نفسه في (أبكار)، ودل بها على المعاني التي كانت تضطرم في قلبه حتى أضنته ومسحت وجهه بالشحوب،، وعرقت لحمة بالهزال، وصيرت إنساناً منكراً في عين من يحب.
فهذا الأعرابي الجريء، والمحب المزدري، الساخر المستخف عندئذ بالناس وبالنساء وبالحياة، قد أراد أن يعلم (أميمته) الباغية أنها إذا كانت تؤثر عليه أمراً غضاً ناضراً ناعماً لم تؤرقه هموم النفس ولم يضر به الكدح في بوادي الأحلام والآلام والآمال، فانه غني عنها، وعن سائر نساء العالمين - وأن أمثالها لسن له بهم، وأن له من حاجات نفسه وهمومها (أبكاراً) كأبكار النساء و (عوناً) كعونها، فهو راض بها وبما يلقي في سبيلها من ارق وسهاد. وأراد أن يعلمها انه لا يأسى على ما فاته من بكر ولا عوان، فإن للنفس الشاعرة هموماً (أبكاراً) لم تمسسها يد ولا فكر ولا حلم، تجد النفس المحبة فيها ما يجد المحب في العذراء الحيية العصية من فتنة وجمال ونظرة وشباب، ولا يزال يداورها ويحاورها ويشقى بالسعي في طلابها شقاءً لذيذاً له في القلب نشوة أو سعار. وهي (أبكار) لا تزال عذراء على وجه الدهر لا تغير منها الأيام شيئاً، ولا تنيل الطالب المحب إلا متاع الجب المجرد من شهوات الأبدان، بل هي تغتدي بالأبدان فتضنيها وتنهكها لتبقى هي أبداً أبكاراً.
BY عمالقة الأدب العربي المعاصر الرافعي المنفلوطي محمود شاكر الإبراهيمي
Warning: Undefined variable $i in /var/www/tg-me/post.php on line 280
Share with your friend now:
tg-me.com/amaliketeladab/3020