Telegram Group & Telegram Channel
رواندا | أمَاني البُريهي.

من بين عبق الرسائل القديمة كنت أقف أتأمل ما مر بي كسيناريو يصعب تصديقه، كيف مرت الأحداث حتى أتت بي إلى هنا.

رواندا ١٩٩٠
كنتُ كزهرة النرجس، كالربيع آنذاك، مشرقة كالشمس وممتلئة بالحياة، يزهر الحب في ملامحي، وتخجل الحياة من ابتسامتي، كان الحب في قلبي عامرًا يشدو كعصافير الصباح لحنًا، لكنها الأيام تسرق منا كل جميل.

صباح يوم كئيب
أعلنت الحرب تمردها وقُرعت طبولها، فسقط الراء سهوًا واندثر الحب تحت ركام الحرب، فوضى وقتلى في كل مكان، الأرض تحولت لساحةِ معركة، والحياة أصبحت صعبة على من يريد، كنت حينها فتاة الحب مفعمة بالأمل، لكن الحروب التي شُنت فرقتنا، بأعذارٍ باهتة قيل لي: "كيف لفتاة من قبيلة التوتسي أن تصبح حبًا لأحد أبناء قبيلة الهوتو"، كان الخلاف كبيرًا وقبيلتنا هي الأكثر موتًا وحبنا هو الأكثر ضررًا.

اشتدت الحروب فأستيقظت ذات ليلة على فاجعة أدمت قلبي، الأرض ملطخة بالدماء يكسو عباءة الليل نوراً كالنار تلتهم ما حولنا،
الأرض حرقت، الدمار أصبح أكبر، الكثير من الأرواح هنا وهناك، أصوات المدافع تنشر الرعب في أفئدتنا يقولون أنها عملية إبادة، أعداد القتلى في ازدياد، الموت منا يقترب، كنت حينها في نظر ابناء قبيلتي لستُ سوى مجرد خائنة أحبت واحدًا من أعدائهم، كانوا ينظروا إليَّ كنظرتهم لمن أشعل الحرب، يتنظرون متى ستسنح لهم الفرصة ليقتصوا مني، كنت أقف بين حب يستحال له اللقاء، وبين أرض إليها الإنتماء، اشتدت الفتن فازداد القتلى، كلما مات أحدهم أصبح حلم السلام بعيدًا في مخليتي، وأصبح اللقاء مستحيلًا، اعتدت أخبار الموت واعتدت ازدياد الأرقام، لكني لم أكن مستعدة للفقد، لم يكن لدي القوة لتوديع أحد، لتلويحة باردة ودمعة يتبعها رجاء ألا يغادروا.

كان منظره الملطخ بالدماء يدمي القلب، انصهر الفؤاد المملوء بالحب، فبكيتُ حتى شحب صوتي، النار التهمت والدي، رقم واحد ازداد في لائحةِ الموتى، لكنه كان قاتلًا بالنسبة لي، اسودت الحياة في عيني، تحول الربيع لخريفٍ باهت، اكل ما تبقى من روحي، فأصبحت ذات قلب حجري يرفض الحب كالحرب، فنظرت لأوّلِ مرة للحب كأنه من قتل والدي كأنني خنت هذه الأرض حينما وقعت في غرامِ احدٍ منهم.

مرت الأيام ابيضت عيناي من الحزن، وحن قلبي للأمان، تمنيت لو تشرق الأرض معلنة النصر، مُعلنة انتهاء هذه الحرب العبثية، أن تنمو من دماء من رحلوا زهور، كل زهرة عوضًا دافئًا عمن رحل، رحل الكثير هنا كم ستصبح هذه الأرض مزهرة.

كان نهاري كليلي، لا الشمس أشرقت، ولا الظلام غادر، عشتُ ليالٍ طوال كأنّها كانت لن تنقضي. موسيقانا الموت، وهواؤنا دخان مُعتم، وطعامنا الألم نقتاتهُ بحُزنٍ وخوف، ترتجفُ دواخلنا مع كل انفجار، وتبكي أرواحنا مع كل فقيد.

مرت سنوات هكذا أبكي بحرقة على من رحل، أتنهد برجاء ألا يرحل المزيد، كانت الحرب قد غيرتنا، جعلت منا أناس ذوي قلوب لا ترحم، وأناس ازداد الخوف في داخلهم أكثر، والأرض أبيدت وانحرقت المحاصيل، مرت سنوات هكذا بين الدماء والألم، حتى بدأت الحرب بالاندثار، فتحول دخان البارود لهواءٍ نقي، زُرعت الأرض مجددًا، وفاح عبير الأزهار.

استيقظت ذات يوم على أصوات العصافير نيابة عن طبول الحرب، فكدت أجزم أنها أضغاث أحلام لولا أنهم يقولون توحدنا، أن بناء السلام هو هدفهم، لم تسعني هذه الأرض لأفرح، داخلي يتراقص أملًا، لن يعود الغائبون لكن لا مزيد من الراحلين، ستزهر هذه الأرض مجددًا، ربما سيزهر الحب سينمو، سيشرق السلام نيابة عن الشمس.

يومًا بعد يوم أرضنا تصبح جنّة، تتحول من ساحة معركة لأرض السلام، لأرضِ تضرب بها الأمثال، كيف أعاد قائد هذه الأرض للحياة، وكيف أزهرت كهذا!

عادت الروح لجسدي، فأشرقتُ بدوري، ونما الحُب مجددًا من بين الركام، ومن أرواح القتلى من بين عبقهم، عشتُ أيامًا كانت عوضا عما مضى، فمضيت بقلب يحب السلام فالحب، توحدت قبائلنا وتعايشت، فأصبحنا حديث العالم، ينظرون بدهشة إلينا عوضًا عن نظرات الشفقة، وننظر إلى أنفسنا بأملٍ سُنزهر أكثر.

الأرض التي كانت رمادًا أصبحت ملاذًا آمنًا، الأرض تعزف سمفونية الحُب، والسماء تتراقص مطرًا، أصبحت تفوح منا الحياة، ويفوح منا الأمل.



tg-me.com/amanialborihi/4013
Create:
Last Update:

رواندا | أمَاني البُريهي.

من بين عبق الرسائل القديمة كنت أقف أتأمل ما مر بي كسيناريو يصعب تصديقه، كيف مرت الأحداث حتى أتت بي إلى هنا.

رواندا ١٩٩٠
كنتُ كزهرة النرجس، كالربيع آنذاك، مشرقة كالشمس وممتلئة بالحياة، يزهر الحب في ملامحي، وتخجل الحياة من ابتسامتي، كان الحب في قلبي عامرًا يشدو كعصافير الصباح لحنًا، لكنها الأيام تسرق منا كل جميل.

صباح يوم كئيب
أعلنت الحرب تمردها وقُرعت طبولها، فسقط الراء سهوًا واندثر الحب تحت ركام الحرب، فوضى وقتلى في كل مكان، الأرض تحولت لساحةِ معركة، والحياة أصبحت صعبة على من يريد، كنت حينها فتاة الحب مفعمة بالأمل، لكن الحروب التي شُنت فرقتنا، بأعذارٍ باهتة قيل لي: "كيف لفتاة من قبيلة التوتسي أن تصبح حبًا لأحد أبناء قبيلة الهوتو"، كان الخلاف كبيرًا وقبيلتنا هي الأكثر موتًا وحبنا هو الأكثر ضررًا.

اشتدت الحروب فأستيقظت ذات ليلة على فاجعة أدمت قلبي، الأرض ملطخة بالدماء يكسو عباءة الليل نوراً كالنار تلتهم ما حولنا،
الأرض حرقت، الدمار أصبح أكبر، الكثير من الأرواح هنا وهناك، أصوات المدافع تنشر الرعب في أفئدتنا يقولون أنها عملية إبادة، أعداد القتلى في ازدياد، الموت منا يقترب، كنت حينها في نظر ابناء قبيلتي لستُ سوى مجرد خائنة أحبت واحدًا من أعدائهم، كانوا ينظروا إليَّ كنظرتهم لمن أشعل الحرب، يتنظرون متى ستسنح لهم الفرصة ليقتصوا مني، كنت أقف بين حب يستحال له اللقاء، وبين أرض إليها الإنتماء، اشتدت الفتن فازداد القتلى، كلما مات أحدهم أصبح حلم السلام بعيدًا في مخليتي، وأصبح اللقاء مستحيلًا، اعتدت أخبار الموت واعتدت ازدياد الأرقام، لكني لم أكن مستعدة للفقد، لم يكن لدي القوة لتوديع أحد، لتلويحة باردة ودمعة يتبعها رجاء ألا يغادروا.

كان منظره الملطخ بالدماء يدمي القلب، انصهر الفؤاد المملوء بالحب، فبكيتُ حتى شحب صوتي، النار التهمت والدي، رقم واحد ازداد في لائحةِ الموتى، لكنه كان قاتلًا بالنسبة لي، اسودت الحياة في عيني، تحول الربيع لخريفٍ باهت، اكل ما تبقى من روحي، فأصبحت ذات قلب حجري يرفض الحب كالحرب، فنظرت لأوّلِ مرة للحب كأنه من قتل والدي كأنني خنت هذه الأرض حينما وقعت في غرامِ احدٍ منهم.

مرت الأيام ابيضت عيناي من الحزن، وحن قلبي للأمان، تمنيت لو تشرق الأرض معلنة النصر، مُعلنة انتهاء هذه الحرب العبثية، أن تنمو من دماء من رحلوا زهور، كل زهرة عوضًا دافئًا عمن رحل، رحل الكثير هنا كم ستصبح هذه الأرض مزهرة.

كان نهاري كليلي، لا الشمس أشرقت، ولا الظلام غادر، عشتُ ليالٍ طوال كأنّها كانت لن تنقضي. موسيقانا الموت، وهواؤنا دخان مُعتم، وطعامنا الألم نقتاتهُ بحُزنٍ وخوف، ترتجفُ دواخلنا مع كل انفجار، وتبكي أرواحنا مع كل فقيد.

مرت سنوات هكذا أبكي بحرقة على من رحل، أتنهد برجاء ألا يرحل المزيد، كانت الحرب قد غيرتنا، جعلت منا أناس ذوي قلوب لا ترحم، وأناس ازداد الخوف في داخلهم أكثر، والأرض أبيدت وانحرقت المحاصيل، مرت سنوات هكذا بين الدماء والألم، حتى بدأت الحرب بالاندثار، فتحول دخان البارود لهواءٍ نقي، زُرعت الأرض مجددًا، وفاح عبير الأزهار.

استيقظت ذات يوم على أصوات العصافير نيابة عن طبول الحرب، فكدت أجزم أنها أضغاث أحلام لولا أنهم يقولون توحدنا، أن بناء السلام هو هدفهم، لم تسعني هذه الأرض لأفرح، داخلي يتراقص أملًا، لن يعود الغائبون لكن لا مزيد من الراحلين، ستزهر هذه الأرض مجددًا، ربما سيزهر الحب سينمو، سيشرق السلام نيابة عن الشمس.

يومًا بعد يوم أرضنا تصبح جنّة، تتحول من ساحة معركة لأرض السلام، لأرضِ تضرب بها الأمثال، كيف أعاد قائد هذه الأرض للحياة، وكيف أزهرت كهذا!

عادت الروح لجسدي، فأشرقتُ بدوري، ونما الحُب مجددًا من بين الركام، ومن أرواح القتلى من بين عبقهم، عشتُ أيامًا كانت عوضا عما مضى، فمضيت بقلب يحب السلام فالحب، توحدت قبائلنا وتعايشت، فأصبحنا حديث العالم، ينظرون بدهشة إلينا عوضًا عن نظرات الشفقة، وننظر إلى أنفسنا بأملٍ سُنزهر أكثر.

الأرض التي كانت رمادًا أصبحت ملاذًا آمنًا، الأرض تعزف سمفونية الحُب، والسماء تتراقص مطرًا، أصبحت تفوح منا الحياة، ويفوح منا الأمل.

BY تِشرين.


Warning: Undefined variable $i in /var/www/tg-me/post.php on line 280

Share with your friend now:
tg-me.com/amanialborihi/4013

View MORE
Open in Telegram


تِشرين Telegram | DID YOU KNOW?

Date: |

The messaging service and social-media platform owes creditors roughly $700 million by the end of April, according to people briefed on the company’s plans and loan documents viewed by The Wall Street Journal. At the same time, Telegram Group Inc. must cover rising equipment and bandwidth expenses because of its rapid growth, despite going years without attempting to generate revenue.

NEWS: Telegram supports Facetime video calls NOW!

Secure video calling is in high demand. As an alternative to Zoom, many people are using end-to-end encrypted apps such as WhatsApp, FaceTime or Signal to speak to friends and family face-to-face since coronavirus lockdowns started to take place across the world. There’s another option—secure communications app Telegram just added video calling to its feature set, available on both iOS and Android. The new feature is also super secure—like Signal and WhatsApp and unlike Zoom (yet), video calls will be end-to-end encrypted.

تِشرين from us


Telegram تِشرين.
FROM USA