Telegram Group & Telegram Channel
سرعان ما حل أرسطو محل البابا ونال استحقاقَا وقداسة وأصبحت فلسفته عقيدة مقدسة على يد السكولاستيكا، أي المدرسة اليونانية، لدرجة أنه صار محاطا بهالة لا يجوز لأحد أن ينتقده أو ينال من آرائه، بل كل من يجرؤ على مخالفة آرائه أو الانتقاص من مكانته معرض للعقاب الأعظم وهو قطع الرأس!

يخبرنا الباحث كيف أن الآراء البشرية تخضع وفقا لظروف عصرها وطبيعته، فبعد سيطرة البابوات والكهنة صار الفلاسفة في عصور التنوير هم المتحكمون بعقول الناس وفرضوا بدورهم تعاليمهم عليهم، لكن العقول التي وجدت ثقبا نحو التنوير هي نفسها ثارت على كل الفلسفات التي من شأنها تقييد فكرهم وتؤخرهم عن مواكبة ركب الحضارة، وصار من الصعب كبت ثورتهم؛ ليكون الطريق ممهدًا نحو آفاق الحرية الفكرية ونهاية لعصور الظلام في منتصف القرن الثاني عشر، حيث خطت أوروبا أولى خطواتها نحو التنوير الفكري والفلسفي، ففي هذا القرن تحديدًا حدثت نهضتان، كانت الأولى على الصعيد المحلي، والثانية خارجية عن طريق العرب.

بينما الإنجازات الفكرية والفلسفية للعرب في تلك الحقبة لم تمر مرور الكرام في صلب المجتمع الأوروبي الذي كان ينفتح رويدا رويدا وبفضول مشوب بحذر؛ فالسلطات اللاهوتية المسيحية لم تقف صامتة بل لجأت إلى تدابير عديدة لوقف هذا الغزو الفكري المنطلق بشدة من العرب، ففي فرنسا صدر قرار لاهوتي بمنع قراءة كتب أرسطو وكتب شراحه سواء في حلقات عامة أو خاصة، هذا القرار كما يرى الباحث كان ذا فاعلية إلى حد ما في ذلك الوقت، لكن التعطش الأوروبي للعلم والفلسفة كان كبيرا بحيث خلع اللامبالاة لقرارات الكنيسة بالمنع ليدخل هذا الجمهور المتعطش في مناخ العصور الحديثة، في هذا التوقيت نفسه كانت الحضارة العربية التي ظلت شامخة في القرون السالفة تتداعى في نهاية القرن الثاني عشر لتدخل بدورها عصور الظلام والانحطاط الفكري والفلسفي، كأن أوروبا نفضت آخر ما تبقى من تخلفها في جهة الشرق، لتغرق بدورها في دوامة من التأخر العلمي والفكري في القرون القادمة، ليكون التاريخ العربي مجرد إرث منسي بعد حقب من الازدهار، كما يذهب المؤلف بقوله:" اختفت الفلسفة من أرض الإسلام بعد القرن الثاني عشر الميلادي أي بعد موت "ابن رشد بالذات" ويمكن القول إن نهاية العصور الوسطى المسيحية قد تزامنت مع بداية العصور الوسطى الإسلامية أو عصور الانحطاط".

ولابن رشد تحديدًا دور عظيم في رفد أوروبا بالتنوير إلى جانب أرسطو بنفس القدر من التأثير، على الرغم من التشويه الذي تعرض له لاحقا على يد الأوروبيين، الذين كانوا يرونه ملحدًا في وقت كان فيه رجل مسلم يؤدي فرائضه الخمس في أحد مساجد قرطبة. المسجد نفسه الذي طرد منه على يد المسلمين في أواخر حياته!

لقد ظل الفيلسوف ابن رشد بجلال قدره لغزًا كبيرًا في التاريخ الإسلامي والأوروبي، مطاردًا بسوء الظن والتشويه، فالأوروبيون أخذوا من كتبه المترجمة ما تبرزه بصورة غير التي كانت على حقيقتها، بينما لم يعِ معظم المسلمين حقيقة فلسفته.

عُرف ابن رشد بآرائه الفلسفية المتباينة، فقد كان يرى من الحماقة أن يجرف أولئك الفلاسفة عامة الناس في حلقاتهم الخاصة وجعلها منابر عامة. فابن رشد وفق الباحث قسم الناس لثلاث مراتب إزاء الشرع أو الشريعة الإلهية، فهناك أولا طبقة غير قادرة على أي تأويل للنص المقدس وهم أصحاب الأقاويل الخطابية الذين يفهمون لا المواعظ والخطب الشعبية، هذه الطبقة تمثل الجمهور الأعظم من المسلمين، أما الطبقة الثانية فهي على نقيض الطبقة الأولى؛ فهي تصدق بالأقاويل الجدلية وهي من جماعة التأويل، أما الطبقة الثالثة فهي الأرفع شأنا لأنها طبقة التأويل اليقيني، رغم هذه التقسيمات كان يود ابن رشد لو أن هناك طبقتين فحسب، طبقة العامة من الناس والفلاسفة. مبررًا وجهة نظره بقوله:" لأننا إذا ما عرضنا التأويلات على من هم ليسوا بقادرين على فهمها، فإننا ندمر المعنى الظاهري في نفوسهم في حين أنهم غير قادرين على فهم أي شيء آخر غيره، وهكذا بحجة تعليمهم نؤدي بهم إلى الكفر".

وبموت ابن رشد ماتت الفلسفة في الديار العربية الإسلامية كما حدد الباحث؛ والذي جاء جنبا إلى جنب مع سقوط غرناطة عام 1492م والتي كانت علامة بارزة على القطيعة بين أوروبا والعالم الإسلامي، هذه القطيعة التي شكلت صدمة للعرب، فقد حملت في طيّاتها قطيعة مع ماضيهم الكلاسيكي المبدع من ناحية، وقطيعة مع الحداثة الأوروبية التي تفوقت على الحضارة الإسلامية وحققت نجاحات ساحقة في كافة مجالات العلوم والمعارف والفلسفة.

يفسر الباحث هذا الانحطاط العربي مقابل التنوير الأوروبي بقوله:" لقد خرج العرب من التاريخ عندما كفوا عن التثاقف مع الآخرين عندما كفوا عن الترجمة. إن سر النهضة الأوروبية التي حصلت في القرنين الخامس عشر والسادس عشر هو نفسه سر نهضة القرن الثاني عشر، أي سر جميع النهضات: إنه الترجمة والانفتاح على الآخرين".



tg-me.com/halami/6197
Create:
Last Update:

سرعان ما حل أرسطو محل البابا ونال استحقاقَا وقداسة وأصبحت فلسفته عقيدة مقدسة على يد السكولاستيكا، أي المدرسة اليونانية، لدرجة أنه صار محاطا بهالة لا يجوز لأحد أن ينتقده أو ينال من آرائه، بل كل من يجرؤ على مخالفة آرائه أو الانتقاص من مكانته معرض للعقاب الأعظم وهو قطع الرأس!

يخبرنا الباحث كيف أن الآراء البشرية تخضع وفقا لظروف عصرها وطبيعته، فبعد سيطرة البابوات والكهنة صار الفلاسفة في عصور التنوير هم المتحكمون بعقول الناس وفرضوا بدورهم تعاليمهم عليهم، لكن العقول التي وجدت ثقبا نحو التنوير هي نفسها ثارت على كل الفلسفات التي من شأنها تقييد فكرهم وتؤخرهم عن مواكبة ركب الحضارة، وصار من الصعب كبت ثورتهم؛ ليكون الطريق ممهدًا نحو آفاق الحرية الفكرية ونهاية لعصور الظلام في منتصف القرن الثاني عشر، حيث خطت أوروبا أولى خطواتها نحو التنوير الفكري والفلسفي، ففي هذا القرن تحديدًا حدثت نهضتان، كانت الأولى على الصعيد المحلي، والثانية خارجية عن طريق العرب.

بينما الإنجازات الفكرية والفلسفية للعرب في تلك الحقبة لم تمر مرور الكرام في صلب المجتمع الأوروبي الذي كان ينفتح رويدا رويدا وبفضول مشوب بحذر؛ فالسلطات اللاهوتية المسيحية لم تقف صامتة بل لجأت إلى تدابير عديدة لوقف هذا الغزو الفكري المنطلق بشدة من العرب، ففي فرنسا صدر قرار لاهوتي بمنع قراءة كتب أرسطو وكتب شراحه سواء في حلقات عامة أو خاصة، هذا القرار كما يرى الباحث كان ذا فاعلية إلى حد ما في ذلك الوقت، لكن التعطش الأوروبي للعلم والفلسفة كان كبيرا بحيث خلع اللامبالاة لقرارات الكنيسة بالمنع ليدخل هذا الجمهور المتعطش في مناخ العصور الحديثة، في هذا التوقيت نفسه كانت الحضارة العربية التي ظلت شامخة في القرون السالفة تتداعى في نهاية القرن الثاني عشر لتدخل بدورها عصور الظلام والانحطاط الفكري والفلسفي، كأن أوروبا نفضت آخر ما تبقى من تخلفها في جهة الشرق، لتغرق بدورها في دوامة من التأخر العلمي والفكري في القرون القادمة، ليكون التاريخ العربي مجرد إرث منسي بعد حقب من الازدهار، كما يذهب المؤلف بقوله:" اختفت الفلسفة من أرض الإسلام بعد القرن الثاني عشر الميلادي أي بعد موت "ابن رشد بالذات" ويمكن القول إن نهاية العصور الوسطى المسيحية قد تزامنت مع بداية العصور الوسطى الإسلامية أو عصور الانحطاط".

ولابن رشد تحديدًا دور عظيم في رفد أوروبا بالتنوير إلى جانب أرسطو بنفس القدر من التأثير، على الرغم من التشويه الذي تعرض له لاحقا على يد الأوروبيين، الذين كانوا يرونه ملحدًا في وقت كان فيه رجل مسلم يؤدي فرائضه الخمس في أحد مساجد قرطبة. المسجد نفسه الذي طرد منه على يد المسلمين في أواخر حياته!

لقد ظل الفيلسوف ابن رشد بجلال قدره لغزًا كبيرًا في التاريخ الإسلامي والأوروبي، مطاردًا بسوء الظن والتشويه، فالأوروبيون أخذوا من كتبه المترجمة ما تبرزه بصورة غير التي كانت على حقيقتها، بينما لم يعِ معظم المسلمين حقيقة فلسفته.

عُرف ابن رشد بآرائه الفلسفية المتباينة، فقد كان يرى من الحماقة أن يجرف أولئك الفلاسفة عامة الناس في حلقاتهم الخاصة وجعلها منابر عامة. فابن رشد وفق الباحث قسم الناس لثلاث مراتب إزاء الشرع أو الشريعة الإلهية، فهناك أولا طبقة غير قادرة على أي تأويل للنص المقدس وهم أصحاب الأقاويل الخطابية الذين يفهمون لا المواعظ والخطب الشعبية، هذه الطبقة تمثل الجمهور الأعظم من المسلمين، أما الطبقة الثانية فهي على نقيض الطبقة الأولى؛ فهي تصدق بالأقاويل الجدلية وهي من جماعة التأويل، أما الطبقة الثالثة فهي الأرفع شأنا لأنها طبقة التأويل اليقيني، رغم هذه التقسيمات كان يود ابن رشد لو أن هناك طبقتين فحسب، طبقة العامة من الناس والفلاسفة. مبررًا وجهة نظره بقوله:" لأننا إذا ما عرضنا التأويلات على من هم ليسوا بقادرين على فهمها، فإننا ندمر المعنى الظاهري في نفوسهم في حين أنهم غير قادرين على فهم أي شيء آخر غيره، وهكذا بحجة تعليمهم نؤدي بهم إلى الكفر".

وبموت ابن رشد ماتت الفلسفة في الديار العربية الإسلامية كما حدد الباحث؛ والذي جاء جنبا إلى جنب مع سقوط غرناطة عام 1492م والتي كانت علامة بارزة على القطيعة بين أوروبا والعالم الإسلامي، هذه القطيعة التي شكلت صدمة للعرب، فقد حملت في طيّاتها قطيعة مع ماضيهم الكلاسيكي المبدع من ناحية، وقطيعة مع الحداثة الأوروبية التي تفوقت على الحضارة الإسلامية وحققت نجاحات ساحقة في كافة مجالات العلوم والمعارف والفلسفة.

يفسر الباحث هذا الانحطاط العربي مقابل التنوير الأوروبي بقوله:" لقد خرج العرب من التاريخ عندما كفوا عن التثاقف مع الآخرين عندما كفوا عن الترجمة. إن سر النهضة الأوروبية التي حصلت في القرنين الخامس عشر والسادس عشر هو نفسه سر نهضة القرن الثاني عشر، أي سر جميع النهضات: إنه الترجمة والانفتاح على الآخرين".

BY هواجس غرفة العالم ( ليلى عبدالله )


Warning: Undefined variable $i in /var/www/tg-me/post.php on line 280

Share with your friend now:
tg-me.com/halami/6197

View MORE
Open in Telegram


هواجس غرفة العالم ليلى عبدالله Telegram | DID YOU KNOW?

Date: |

What is Secret Chats of Telegram

Secret Chats are one of the service’s additional security features; it allows messages to be sent with client-to-client encryption. This setup means that, unlike regular messages, these secret messages can only be accessed from the device’s that initiated and accepted the chat. Additionally, Telegram notes that secret chats leave no trace on the company’s services and offer a self-destruct timer.

How Does Bitcoin Mining Work?

Bitcoin mining is the process of adding new transactions to the Bitcoin blockchain. It’s a tough job. People who choose to mine Bitcoin use a process called proof of work, deploying computers in a race to solve mathematical puzzles that verify transactions.To entice miners to keep racing to solve the puzzles and support the overall system, the Bitcoin code rewards miners with new Bitcoins. “This is how new coins are created” and new transactions are added to the blockchain, says Okoro.

هواجس غرفة العالم ليلى عبدالله from us


Telegram هواجس غرفة العالم ( ليلى عبدالله )
FROM USA