Telegram Group Search
74- طالبٌ يسأل وأنا أجيب!

اشتركتُ قبل فترة في سلسلة مجموعات على الواتساب، عن التدريب التربوي للمعلمين، تُبَث فيها النصائح والإرشادات، والسلسلة فيها أكثر من خمسة آلاف معلم ومعلمة على مستوى صنعاء ومحافظات أخرى.

نشر قبل قليل الأستاذ المدرب الدولي سمير المَعمَري سؤالاً على لسان أحد الطلاب، يسأل ويستفهِم لماذا يدرس الكثير من المواد، وما فائدتها، وكيف يربط بينها.. فاستثارني الموضوع لأكتب رداً عليه، فكتبتُ وأرسلتُه للأستاذ، ولكني لم أتوقع أنه سينشره في سلسلة المجموعات؛ وهو الذي لا يسمح لأحدٍ بالنشر في المجموعات سواه!

منشوري الصغير ذاك، يواجه الآن آلاف الأعيُن تنظر إليه! فقلتُ في نفسي أنتم أحق بقرائته من أولئك الغرباء!

كتبتُ للطالب -ونصف الكلام قد كتبتُه في منشورٍ سابق-:

"عزيزي الطالب!
ربما لستُ أعرفك، ولكن العلم رحِمٌ وقرابة بين الطالب وأستاذه.

سألتَنا بلسانك ولسان إخوانك الطلاب، وسأجيبك بلساني وإخوتي المعلمين!

نحن نعلم أنك تدرس الكثير من المواد، وتكاد تحتار بين تفاصيل العلوم وفروعها، وتقرأ حين تقرأ وأنت تريد الخَلاص!

يا أخي!
نحن كنَّا طلاباً مثلك، وسنزال طلاباً من المَهد إلى اللَّحد!
ولكنَّا قد وجدنا الثمرة التي لا زلتَ تراها عالياً في الشجرة، ولم تصِل إليها؛ ونُبشرك بأنك ستصِل وستذوق، ومن ذاقَ عرَف، ومن عرَف اغتَرف!

يا أخي!
تلك العلوم ستصنع منك ذوَّاقاً.. كالنحلة تماماً!
تطوف البساتين والأودية، فلا تقف إلا على الأزهار!
ستُعلمك التَنقِّي والتحرِّي في غوغائية هذا العالم وعشوائيته!

يا أخي!
تفنَّن في العلوم بربط بعضها ببعض، واجعل منها لوحةً فنية، وأنتَ صاحب الريشة!

فلو درستَ الفيزياء بدقةٍ وتفنُّن؛ سترى المقاييس الدقيقة في كل زوايا العالم، وستضبِطها بالقوانين الجبرية والهندسية، وحينَ تدرس دور الكيمياء في تنظيم حيوية جسمك؛ ستزدادُ إيماناً ملء حُجرات قلبك الأربع؛ تلك التي درستَ أسماءها في علم الأحياء!

ويوم أن تُيمِّم وجهك شَطر آيات القرآن العظيم، ستجد لذة القراءة ولذة اللغة العربية؛ حين تقرأ الآية وأنت تعلم تفسيرها، وسبب نزولها، وعلى مَن نزلت، وبمَ استدل بها علماء الفقه والتفسير واللغة والبلاغة، ومباحثَ أخرى تأخذ بعقلكَ روعةً وانبهاراً!

يا أخي!
لا نريد منك أن تكون جمَّاعةً للمعلومات، تحمِلها أسفاراً ولا تستفيد منها!
لا نريد أن يكون حالك كمَن قَطعَ الحديد، وصَنعَ ميزاناً، وأقنعَ الناس أن الميزان يُحقق العدل، وليس عنده شيئاً يضعه في الميزان أصلاً!

يا أخي!
اقرأ في كل العلوم، وستتعجب حينها من اللوحة الفنية التي تشكَّلت أمامك؛ وأنت ترى الإلكترونات تطوف حول نواة الذرة، والأقمار حول الأرض، والدم حول القلب، والناس حول الكعبة؛ ستعرف وقتها أن العلوم كلها إخوةٌ لأمهاتٍ شتَّى، وأبٍ واحد!

دمتَ بخير!"

هذا ما كتبتُه، ولعله يكون رداً لكل طالب! ولعلي أكون حقاً قد أجبتُ بلسان كل أستاذ!

دمتم بخير!

🖋️ محمد بن هيكل الأكحلي - ٤ ذو القعدة ١٤٤٥.

قناة بذرة وفكرة:
www.tg-me.com/بذرة وفكرة/com.bethrahwafekrah
75- درس وَعظِي في علم الأحياء!

إن كُنتَ قد هربتَ من المدرسة في دروس الأحياء، بحجة أنها مُمِلة وصعبة، فأنا أوصيكَ أن تهرب منها الآن مرة أخرى!

وإن كنتَ ستبقى، فلتَعِش الدور وكأنك في فصلٍ مدرسي!

حسناً.. فلنبدأ الآن!

صباح اليوم وأنا أشرح لأحد أقاربي في الثانوية العامة، دروس الخلايا العصبية في جسم الإنسان، لفتَني شيء مُثير للتفكر!

وهو سرعة استجابة الدماغ لأي مؤثر خارجي يُصيب الجسد؛ في عملية باهرة تبدأ بالخلايا الحسية مروراً بالحركية عن طريق النواقل العصبية وتنتهي بإصدار الأمر من الدماغ وتنفيذه عملياً، وكل هذا في جزء قصير من الثانية!

وعرفنا أن الإنسان قد يؤلمه الدبوس أكثر من العصا! وأن ألم الإصبع أشد من ألم البطن! واستذكرنا الكثير عن مراكز الإحساس في الجسد.. ولكني سأتوقف للحديث عن الإصبع!

هذا الإصبع الذي هو أكثر الأطراف إحساساً بالألم، ذو البطانة الرقيقة التي تؤثر فيها حتى السوائل، كيف بكَ لو وضعتَه في النار؟! هل سيتحمل؟!

كان أحد السلف السابقين رحمه الله إذا أذنَبَ ذنباً وضع إصبعه على الشمعة، يُعاقب نفسه ويُذكرها بنار جهنم.. متجاهلاً كل التضارب العصبي الذي يحدث في جسده، ويتحدى كل قرارات اللا وعي التي يصدرها دماغه!

ويُذكرنا -بلسان حاله- بأن نار الآخرة أشد وأقوى بسبعين مرة من كل نيران الدنيا التي نخاف من ملامستها بأصابعنا!
(نسأل الله السلامة من نيران الدنيا والآخرة).

وهنا أيضاً قصة شهيرة في كتب التاريخ، حدثت لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.
اشتَهرت في أيامه الفِرَق الصوفية المنحرفة، وخاصةً دجاجِلة البَطائحية؛ الذين كانوا يغُرُّون الناس البسطاء بأنهم من أولياء الله؛ فيقوم أحدهم بدهن جسده بزيت خاص ثم يوقد النار ويدخل فيها ولا تُحرقه، فيندهش الناس ويُصدقون أنه فعلاً من أولياء الله.. لكن مثل هذه الخُدع لا تنطلي على عالمٍ رباني مثل شيخ الإسلام؛ فكان رحمه الله يُنكر عليهم هذا، ويُخبر الناس مُرشِدا لهم، أن أولئك القوم يطلون جسومهم بأدوية يصنعونها من دهن الضفادع، وباطن قشر النارنج، وحجر الطلق، وغير ذلك من الحِيَل المعروفة عندهم، ثم يدخلون في النار فلا تضرهم!

وكان كلما اشتد ضلالهم وخداعهم للناس، اشتد إنكاره عليهم رحمه الله، نصرةً للحق ونهياً للباطل، حتى ضاقوا به ذرعاً، ووصل الأمر إلى السلطان، فقرر أن يجمعهم في مناظرة مع ابن تيمية، فجمع العلماء والفقهاء والقضاة والجنود وتجمع الناس لحضور المناظرة، وجيء بشيخ أولئك الدجاجلة وجيء بابن تيمية، وبدأ بينهم نقاش طويل حول كرامات الأولياء وخوارق العادات وأمور كثيرة، رجَحَت فيها كفة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وأغرَقَهم بسيل جرَّار من الأدلة الشرعية والعقلية، فلجؤوا إلى التشويش، وقال شيخهم: أنت لا تستطيع أن تفعل ما نفعله، فاكفف نفسك عنا!

فقال له ابن تيمية: بل ادخل أنت في النار وسأدخل أنا، بعد أن نغسل أجسامنا بالخل والماء الحار، ومن يحترق منَّا فهو مغلوب!

فبُهِتَ الرجل، وبدأ بالمراوغة والتهرب، لأنه لم يتوقع هذا الرد والإلزام من ابن تيمية!
فأشار ابن تيمية إلى قنديل نار على الجدار، وقال: ضع إصبعك فيه وأضع إصبعي، ولعنة الله على من تحترق إصبعه!

فخاف الرجل، وتلكَّأ وارتبك، وعرف الجميع عجزه عن ذلك، وهُزِم وغُلِب هو وأصحابه أمام الجميع، فوَعَظهم شيخ الإسلام ابن تيمية باتباع الشريعة، والتمسك بما جاء به نبينا ﷺ، والابتعاد عن البدع والخدع والخرافات.

بعد انتهاء المناظرة، سأل بعضهم شيخ الإسلام: لو كان الرجل وضع إصبعه، هل ستضع إصبعك؟! قال: نعم. قال: ولن تحترق؟!
قال: ما أردتُ بذلك إلا نصرة دين الله، فلن تحترق!

رحم الله شيخ الإسلام ابن تيمية ورفع مقامه في عليين.
ما أصبره! وأعلمه! وأوثقه بالله!

ونستخلِص من هذا أن النظام الدقيق المحُكَم الذي خلقه الله جل وعلا في أجسادنا؛ لا يمكن أن يُبطله ويوقفه أحدٌ إلا الله جل وعلا.
بل حتى المعجزات والكرامات التي تتخطَّى قواعد الطب ونظريات علم الأحياء والفيسلوجيا، تُخبرنا أنها لا يمكن أن تكون إلا من عند الله جل وعلا، الذي إذا أراد شيئاً إنما يقول له كن فيكون.

وقد قرأتُ قريباً كلاماً بالغ الروعة لبعض الفقهاء رحمهم الله، حين تكلموا عن مسألة أكل لحم الميتة أثناء الضرورة، وعن ضررها الصحي؛ قالوا: وحين أجازها الله في هذا الحال للضرورة، بطل ضررها على الجسم.
ضمن قاعدة: "ما كان مَعفواً عنه شرعاً، زال ضرره قدَرَاً"
فسبحان ربي لا إله إلا هو على كل شيءٍ قدير.

تمنيتُ أن أرى مثل هذه الوَعظيات في دروس الأحياء!
ولا أقصد أن يتحول درس الأحياء إلى محاضرة وَعظية أو درس فقهي! ولكن فلتَكُن مجرد إشارات لطيفة بين ثنايا الدروس؛ تُذكرنا بخالقنا جل وعلا وبديع خلقه وتصويره للمخلوقات، وتزيدنا علماً وإيماناً.

حسناً.. انتهى الدرس!
الواجب ص ٤٦ مع تقويم الوحدة!

دمتم بخير!

🖋️ محمد بن هيكل الأكحلي - ٨ ذو القعدة ١٤٤٥.

قناة بذرة وفكرة:
www.tg-me.com/بذرة وفكرة/com.bethrahwafekrah
76- سهام القوم!

أيها السادة..
مُدن العراق وأنهارها التي تغنى بها الشعراء، وكتب عنها الأدباء، وكانت شاهدةً على أعظم المقطوعات النثرية والغزلية، والتي سكنها أئمة الحديث والفقه، وكتبوا آلاف الكتب بجوارها.. صارت مقبرةً بعدما كانت حياة!

جاء المغول، الهَمَج الوحشيون، فسفكوا دماء أهلها، وخضبوا الأرض بلون الدم، وأحرقوا كل الكتب ونثروا رمادها في تلك الأنهار، فاسودت مياهها ثلاثة أيام من آثار الحبر والرماد، وهي التي قبل ذلك قد أخضَرت الحدائق والبساتين المحيطة بها، وارتوى من مياهها أهل تلك الأرض الشريفة.

أولئك المغول قتلوا الملايين! وهدموا البيوت على سكانها في أرض العراق وفي غيرها من بلاد الإسلام، وأحرقوا المدن ودمروا البلدان وعاثوا في الأرض الفساد.

حتى ظن الناس أنهم هم وبنو عمومتم -التتار- هم يأجوج ومأجوج المُفسدون في الأرض!

ثم ماذا؟

ثم قيَّض الله لهم سيوفاً من سيوف الإسلام، لقنَّوهم الدروس الأخيرة في حياتهم، وغرسوا السيوف والسهام في نحورهم، واقتلعوا ذاك الحقد الدفين الكامن في الداخل!
ثم أرسلوهم إلى الدار الآخرة ليلقوا وَبال أمرهم، ويصلون في نار جهنم أضعاف ما أصلوه غيرهم في الأرض.

وهل كانت فتنة أشد على المسلمين بعد موت نبينا ﷺ إلا هذه!
ولكن الله سلَّم، واصطفى من عباده شهداء، وتميَّزت صفوف الناس وظهر إيمان البعض ونفاق الآخرين.

ومرَّت تلك السنوات العجاف، وجاءت السمان، فتبدلت الأرض غير الأرض، والناس غير الناس.
الذين ماتوا جاء أحفادهم، والكتب المُحترقة كُتِب مثلها وزيادة، ورجع أمر المسلمين أفضل وأكمل من قبل، وصارت تلك القصص صفحاتٍ نقرأها في كتب التاريخ لنأخذ منها العظة والعبرة.

أيها السادة..
افتحوا المصحف، وبعده كتب التاريخ وانظروا فيها كم عانى المسلمون على مرِّ الأزمان والقرون، دولٌ تموت وتحيا، ورجالٌ يُسطرون التاريخ بسيوفهم ودمائهم وآخرون بأقلامهم وصحائفهم.. كل هذا فيه سلوى وتثبيتٌ لنا أمام أنفسنا الضعيفة، وهو درعٌ لنا أمام الغزو الذي ينشب أسنانه علينا من فوقنا وتحتنا وأيماننا وشمائلنا.

أيها السادة..
لا تهِنوا ولا تحزنوا إن رأيتم الهجمات الشرسة ضد الإسلام والمسلمين، فأمر الله قادمٌ لا محالة.
وإن كانت الأحداث المعاصرة تزيدكم قلقاً وخوفاً فقد أخطأتم.. فما هي إلا داءٌ يقودنا إلى الدواء، وأخبار سوء تحمل في طياتها البشارة بإذن الله.

أمَا والله إن نور الفجر يأتي بعد أشد الظلام، وفجر الإسلام سيبزغ من جديد كما بزغ أول مرة، وليُتِمَنَّ الله أمره، ولينصرنَّ الله من ينصره، وهذه ثقتنا بربنا سبحانه جل شأنه.

هي حربٌ علينا في كل الجبهات؛ الدين والعقيدة، والأرض والوطن، والشرف والعِرض.. ولا شيء أشد علينا من أن نرى إخواننا يُقتلون، ويُشردون، وآخرون تُغسَل عقولهم بأفكار الإلحاد والشذوذ وغير ذلك.

ونحن نعلم أن الميادين كثيرة، وسهام القوم أكثر؛ ولكننا لن نقف، ولن ننهزم، وسنقول كما قال عمر المُختار والأبطال من قبله: ننتصر أو نموت.

اللهم إنا ندعوك كما أمرتنا، فاستجِب لنا كما وعدتنا..
اللهم نصراً مؤزراً لإخواننا المستضعفين في كل بقاع الأرض.
اللهم آمين.

🖋️ محمد بن هيكل الأكحلي - ٩ ذو القعدة ١٤٤٥.

قناة بذرة وفكرة:
www.tg-me.com/بذرة وفكرة/com.bethrahwafekrah
77- أنامِل الكيبورد!

أيها السادة..

سأجلس اليوم على طاولة وكرسي، أُحدق بعيني على شاشة الحاسِب، كما يُحدق الطفل إليكَ وأنتَ تأكل الحلوى الخاصة به!

لا.. لا تظنوا أني أصبحتُ مديراً لإحدى الشركات، أو أني خبير تقني! وتعلمون -طبعاً- أنه ليس لدي قبعة الهاكرز، مما يعني أني لستُ هاكراً!

- حسناً ولِمَ تجلس أمام الحاسب يا هذا؟!
= حتى أتقمَّص دور المحاسِب!
- ولِمَ؟!

- لأجل أحد أصدقاء القناة، لستُ أعرفه، ولكن المسكين قد وقع في ورطة! مطلوبٌ منه في الجامعة مقال يتكلم فيه عن مستقبل مجاله "محاسبة"، وصاحبنا العزيز قد أحسَن الظن بي ورأى أني أهلاً لأن أساعده في هذا، وأرجو ألَّا يخيب ظنه!

حسناً.. أرجو ألَّا تضحكوا، فهذه أول مرة أتقمَّص فيها هذا الدور، ورغم أني أميل للأشياء القديمة والعتيقة، إلا أنني سألعب الآن دور أني (جِنتل مان!) و(أوبن ميندد!) 

(من هنا يبدأ المقال)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

• أنامل الكيبورد!

أيها السادة!

هل سمعتم بهذه المقولة: وراء كل شركةٍ عظيمة مُحاسِب حاذِق!
لم تسمعوا؟! طبعاً! لأني اخترعتُها للتو!
لا بأس.. المهم أن معناها صحيح.

الآن لو فعلنا (زووم أوت!) من أعلى، على سوق العمل، سنرى اضطرام النيران في السوق، واضطراب الأسهم والصفقات صعوداً ونزولاً، وارتفاع أرصدة البعض وانخفاضها عند آخرين؛ قد يبدو هذا للوهلة الأولى كأنها حرب تجارية، وهي كذلك!

في ذات الوقت، يجلس أحدهم بمِعطفِه الجديد على كرسي وطاولة، يحتسي القهوة، وكل من حوله يسمع نقرات أصابعه على الكيبورد، التي تبدو كأنها معزوفة راقية لبيتهوفن!

نعم يا سادة.. هذا الشخص هو من يتحكم في ذاك السوق المُضطرب، وهو الذي يُمسك بزمام كل الخيوط المتفرعة في الشركات والمنشئات التي يعمل فيها.

هذا هو المُحاسِب؛ المدير الفعلي للبضائع في المُنشئة، سواءً الماديات أو البيانات والمعنويات، الذي يستطيع بحذاقته إنقاذ الشركة من خساراتٍ محتمة، وتفادي أخطاء العاملين والبائعين التي قد تُودي بالمبالغ الضخمة!

ومستقبل المُحاسِب هو كتاريخه!
التربُّع على عرش وظائف الشركات والمنشآت، حفاظاً على هذا اللقب منذ القديم؛ قبل ثورة التكنولوجيا وبعدها، وقبل الذكاء الاصطناعي وبعده، سيظل الجميع بحاجة إليه دائماً.

ذلك أن الذكاء الاصطناعي -الذي هو أرقى التقنيات البرمجية اليوم- يعتريه النقص من وجوه كثيرة؛ فهو يبني نتائجه على البيانات المعبأة فيه سابقاً، وبعض التحليلات المتوقعة، وهو بهذه المنظومة فاقد لعنصر الواقعية، التي يمتلكها المُحاسِب الحاذِق حين يطرأ طارئ، فيلزمه أن يتخذ القرار السليم في الوقت الضيق، فيتعامل معه بتحكيم عقله وواقعه وحسبان النتائج، وربما تغليب بعض العواطف -خاصةً أمام الانهيار أو الخطأ المفاجئ-، في هذا الحال يكتفي الذكاء الاصطناعي بضرب التوقعات والاحتمالات الخيالية التي قد لا تمُت للواقع بأي صلة!

والمُحاسِب مع المال الذي يتصرف به، هما المادة الدسمة التي أنتجَت النظريات الاقتصادية على مر العصور، والتي جعلت من "سميث" يكتب (ثروة الأمم)، وغيره الذين كتبوا الكثير، ودرسوها في جميع جامعات العالم.

فعلمنا من هذا أن المحاسب لا يُستبدَل بحال، ولا يُغني عنه غيره، بل يُغني هو عن غيره إذا أتقنَ المهارات المجاورة لمهنته؛ فيستطيع أن يكون الخبير الأمني للمنظومة الشبكية للشركة، أو المسؤول المالي فيها، وإن ساءَت أحوال الإدارة أو انهار سُلَّم المَبيعات والمُشتريات، أو عَبِث بها أحد، فهو قادر على إيقاف تلك المَهزلة بمعزوفةٍ قصيرة على الكيبورد، وهو جالس على كرسيه، يحتسي كوب القهوة الذي لم يُكمِله حتى الآن!

فالمُحاسب للشركة هو وزير الاقتصاد للدولة، وتصرفاته في كل مُدخلات ومُخرجات الشركة كأنما هو الملكة على رقعة الشطرنج! التي لا يعلوها إلا الملك فقط!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

حسناً يكفي.. هذا الكرسي يُشعرني بالضيق!
وعند الحديث عن التقنيات أشعر بالكآبة! وتظهر أمامي أكواد وأرقام وتصميمات هندسية تُصيب رأسي بالدوار! وتُذكرني بالرياضيات التي كانت مصيبتي في الثانوية العامة!

الآن سأعود أدراجي.. أتنطَّط في شوارع الحياة والكتب، وأكتب عن الأدبيات والوعظيات، وبعض الطرائف التي أحبها!

وأنت يا صاحِب!
إذا حصلتَ على درجة جيدة في البحث -ولستُ أظن هذا!- أرجو أن تُخبرني هنا عبر بوت التلجرام، حتى نُشاركك الفرحة، وإن حدث العكس فأخبرني أيضاً.. فالرسوب يفقد مَرارته حين نشاركه مع الآخرين! :)

وأنتم أيها السادة.. دمتم بخير!

🖋️ محمد بن هيكل الأكحلي - ١١ ذي القعدة ١٤٤٥.

قناة بذرة وفكرة:
www.tg-me.com/بذرة وفكرة/com.bethrahwafekrah
78- عن الآباء والشباب والبنات!

ملاحظة:
لستُ مستشاراً أسرياً أو خبيراً اجتماعياً، ولا مُتفلسِفاً فيما لا يعلم!
أنا شاب، أعرف مجتمعي، وأكتب هنا ما أراه صواباً، ولا يهمني إن مدَحه أحد أو قدَح فيه!
ولستُ أحتكر الرأي؛ فالباب مفتوح للنقاش بعلم وأسلوب!

اتفقنا؟

حسناً..

أيها السادة!

تعلمون جميعاً أن الأوضاع الاجتماعية في مُجتمعنا مُضطَربة قليلاً، كما هي في المناطق المجاورة، ولكنَّا لا نريد هذه المقارنة معهم؛ فلسنا في سباقٍ ماراثوني، بل نريد وضعنا اليوم أفضل منه في الأمس.

انظروا عمَّا حولكم، كم لدينا شباب عاطلين عن العمل، ونساء كُثُر في البيوت، لا هم انشغلوا بالعلم ولا بالعمل!
فمالنا نقف ساكنين بينما الفرصة سانِحة أن نُقيم لهم دورات تعليم بدائية في مختلف الفنون والمِهن الحرفية؟!
دورات حول أساسيات التجارة، وتعليم القيادة، وأساسيات الحاسوب وغيرها، ونُقدِم للنساء مثلاً دورات تعليم فن الخياطة والتطريز؛ لنستغني بمنتجاتنا المحلية عن غيرها، ودورات إسعافات أولية، وإدارة منزلية حول رعاية الأطفال وتعليمهم، وتحسين تقنيات الزراعة والمحاصيل.. ومن يُحسنون التدريس نوفر لهم طلاباً في كافة المجالات.

لو فعلنا هذا لأنتَجنا، ولو كسلنا فسنبقى دوماً عالةً بعضنا على بعض!

هذه الأولى.

ثم كذلك..
ستجد في كل بيت شاباً لم يتزوج، وفتاةً لم تتزوج، وربما أكثر!
هو لا يقدِر على مهرها، وهي ليس بيدِها شيء، والذنب كل الذنب على أبيها وعلى عادات المجتمع الظالمة!

يا معشر الآباء!
هل هناك مَزاد عَلَني على المهور؟!
ما لنا نرى الأرقام تزداد كل عام وكأننا في ماراثون؟!
لا تُبرروا لنا بغلاء الأسعار؛ فما كل مشتريات العرائس ضرورية!

ألستُم تريدون السِتر لبناتكم؟
فما بالكم تقفون حاجِزاً أمام زواجهن؟!

ما بالكم إذا تقدَّم الفقير الصالح رفضتُمُوه بحُجَّة أنه قليل المال، ولن يُعيِّش ابنتكم في رفاهية!
وإذا تقدَّم الغني ذو الخُلُق السيء قَبِلتُمُوه، بل وقَبَّلتُمُوه في رأسه، وكأنه صاحب الفضل عليكم! وإذا قيل لكم: ولكنه لا يصلي! قلتم: سيهديه الله!
فَلِمَ لا تقولون عن ذلك الفقير: سيرزقه الله؟!
أوَلَيسَ الهادي هو نفسه الرزاق سبحانه وتعالى؟!
ما لكم كيف تحكمون؟!

وما يضُر الفتاة أن تعيش مع مَن يُعِزها ويُكرمها وإن كان فقيراً، وهو والله أعَز وأشرَف لها من الغني المُتكبر الذي يُهينها ويُخبرها كل مرة أنه مُستغنٍ عنها وقادر على أن يشتريها هي وأهلها بأمواله!

ولستُ أعَمِّم، وحطوا تحتها مائة خط، لستُ أعَمِّم؛ فهناك فقراء أنذال في تعاملهم، وهناك أغنياء كثيرون أجِلاء وأشراف من فَرط تواضعهم وأخلاقهم.

والمشكلة أن الأب الذي يُزايد ويُناقِص في المهر، عنده أبناء عازبين يبحثون عن زوجات! وحين يرفع مهر ابنته هو بالمقام الأول يضع السيف على رقبة ابنه!

يا معشر الآباء!
أنسيتم ما كان يفعله آباؤكم؟!
إذا رأوا الشاب الصالح الكُفء للشابة الصالحة، لا يُفوتون الفرصة؛ بل ربما يعقِدون النكاح في يوم وليلة، فستان أنيق، وبضعة جرامات من الذهب، وتمَّ العرس!
كانوا يُسهلونها على أنفسهم فسهلها الله عليهم، فعاش الرجل مع زوجته ستين وسبعين سنة وما اشتكى أحدهما من الآخر!

حتى في بناء البيوت؛ كان الجار يقول لجاره "أعِرني كتفك" بمعنى أعطني جدار بيتك، فيصبح هو وجدار بيته جدارين، واجتمع الشباب وبنوا جدارين آخرين ليُصبح بيتاً صغيراً وعُشاً زوجياً، يتم توسعته مع الأيام ليكون موطِناً للعديد من الأبناء!

أدري أن الأمور اليوم ليسَت بهذه البساطة القديمة، ولكن لنجعلها بسيطة ما أمكَننا ذلك؛ بضعة جرامات من الذهب، وبضعة ملابس، وحفلة بسيطة وغرفة أو بيت صغير وتمَّت الأمور بخير وسعادة!
المهم أنك تشتري رجلاً لابنتك، سنداً لها، وهو ابناً آخراً لك عند الشدائد.

وهذه الثانية.

ثم عن موضوع الشباب!

أنتم أيها الآباء.. أنفقتُم وتعبتُم عليهم، ثم اصطادَهم قومٌ آخرون!
أخَذَهم منكم غيركم، ووَرِثهم من ليس لهم بوارث!

لا يغُرَّنكُم أنهم معكم في البيوت، فوالله إنهم سابِحون في آفاقٍ بعيدة!

أخَذَتهُم مجالس القات، وأنواع الشيشة والدخان، والألعاب الإلكترونية، والمسلسلات والأفلام الهدَّامة، والعلاقات الهاتفية مع الفتيات، والصالح منهم من يكاد يسلم من فخ الأفلام السيئة ومشاهد العهر في الهواتف!
والتي ستقودهم لفساد الفطرة وانتكاستها.. وتعلمون الباقي!

حقيقة بائسة غفلتم عنها، فنحن شباب مثلهم ونعرف ما يمُرون به، وأقول لكم بلسانهم: أنقذونا يا آباءنا! فالقادم أسوأ.

ويا أيها الآباء!
مالي أراكم تُقصُونهُم من مجالسكم؟
في الأفراح والتعزيات والمناسبات وغيرها؟
كيف تريدون الشباب يأخذون عنكم مبادئكم وأخلاقكم وهم دائماً بعيدون عنكم؟!

لستُ أشجع على مضغ القات، وما ذُقته طيلة حياتي، ولا خير فيه ولا نقاش في هذا، ولكن ما دام أنكم واقعون فيه وتعرفون ضرره؛ فما لكم لا تأخذون بيد أبنائكم نُصحاً وتوجيهاً لهم أن يبتعدوا عنه وعن الدخان وتوابعهم؟!
تتحدثون في مجالس القات عن كل شيء في الدنيا، وتأكلون لحوم بعضكم بعضاً غيبةً ونميمة، فما لكم لا تبتكرون الحلول لمشاكل شبابكم؟!

اجعلوا لهم بدائل فيها النفع لهم، وادعموهم فيها؛ ككرة القدم والمسابقات الرياضية، ففيها النفع للجسوم، وفي القراءة والمسابقات الأدبية، ففيها النفع للعقول.

اجلسوا مع الشباب وأشعِروهم بالثقة والجدارة في مجالس الكبار، وإن بَدَت منهم الهَفوة والهَفوتان فلا بأس، فقد بَدَت منكم مثلها أضعافاً مضاعفة في شبابكم، وتعلمون هذا.

المُهم أن تُوجهوا مسارهم، وتُصححوا أفكارهم، وتناقشوا مشاكلهم، وينصح أحدكم حين ينصح بأسلوب الصديق المُقرب، وأسلوب الأب المُربي، فمن كان من الشباب قاسياً سيَلين، ومن كان ليناً سيَشتد!

ومن انحرف بعد هذا فرُدُّوه إلى الطريق بالنُصح أولاً وبالشدة والقسوة ثانياً.. ولكلِ داءٍ دواء!

وهذه الثالثة.

ثم إننا جميعاً نعرف المستوى العلمي والثقافي لآبائنا حفظهم الله، وجيلهم كان جيل علمٍ وعمل.. لكن، ماذا عن جيلنا؟!

أخشى أن تبكي عليه البواكي! وتنوح النائِحات!

فمنذ أن جاءت الهواتف الذكية، صرنا أكثر غباءً!
وأخشى إن مات آباؤنا وجميع الجيل الأول، وصرنا نحن الآباء.. أن التفاهة والحماقة ستغزونا! وسنصبح حتماً في مأزق وكارثة حقيقية!

لذلك كان الجدير بنا أن نبدأ منذ الآن بالإعداد للجيل الناشئ، ونغرس فيهم اليوم أن يكونوا قادة الغد؛ حتى نراهم في عهدهم يهُزون عروش الطغاة، وأسوار بني الأصفر، لا أن يهُزون جسومهم في (التيكتوك!)

ليتها تُقام أندية علمية وثقافية في مناطقنا، لتهيئة الشباب وعياً وفكراً.. وليس هذا بالصعب؛ لأن فينا كوادر كثيرة قادرون على مثل هذا.
ماذا لو كنا نحن أصحاب هذه الفكرة وأقمناها، ثم انتشرت في المناطق المجاورة؟ لَعَمري إن مدينتنا تعز ستعود تعز القديمة، مدينة العلم والثقافة! التي لم تكن يوماً من الزمان أقل من زبيد ولا صنعاء، كما هو مُسطَّر في كتب التاريخ وكتب طبقات علماء اليمن.

ماذا لو رأينا تلك الأندية حقيقةً -ولو كانت إلكترونية-، ورأينا فيها من يُقيم حلقات لتحفيظ الشباب كتاب ربهم جل وعلا، ومن يُقيم مسابقات علمية وأدبية بين الشباب وحتى بين الأكابر!

ماذا لو أقيمت سِجالات ونقاشات علمية مُثرية بين الأساتذة وأصحاب الأقلام! تُنظمها لجان تحكيم، ضمن مواضيع هادفة بعيدة عن وَحل السياسة ودنائة الحزبية.. يتم من خلالها تحفيزهم وإثارة حافظتهم العلمية، ليُخرجوا أفضل ما عندهم.

يا سادة.. مثل هذه النقاشات ستُولد بيئة علمية بين أفراد المنطقة؛ سترى الجميع يقرأ، والكثير يناقش، والبعض يكتب.

نعم، سيفهمها البعض أنها وسيلة لتسييس الألسُن والأقلام؛ لكن هذا لن يحصل إلا عند العقول المريضة.. ولا مرحباً بهم بيننا!

وهذه الرابعة.

أعود إلى حديثي عن صانعي الأجيال؛ المعلمين.
ما لنا نراهم تضمَحِل قدراتهم وعلومهم؟!
يذهبون للمدارس ويُلقون الدروس على طلاب مُهملين، ويمُر العام تلو العام وما ازداد علم الطالب ولا الأستاذ!

يحفظ الأستاذ منذ عشرين أو ثلاثين عاماً ما يُلقيه على طلابه، ثم يبقى يكرره كل عام، ولا يزيد منه ولا ينقص!
والطلاب يتغيرون، والأجيال تتبدل، وهو ثابتٌ على نفس طريقته! بل ربما يتدنى في مستواه العلمي!

وليس هذا الثبات محمود؛ بل إن المعلم الحقيقي هو من يواكب عقليات طلابه، ويرفع من مستواهم إلى مستواه، لا أن ينزل بمستواه إليهم دائماً، ويُبقيهم في نفس المكان!
لا يليق هذا به، فهم واجهته أمام العِلم والعالَم.

وفي هذا المعنى يذكر لنا الأديب الكبير إبراهيم المازني أن من آفات التدريس أن المعلم حين ينزل بعقله إلى مستوى الطلاب، يهوي هو نفسه إلى ذلك المستوى بعد أعوام، إن قصَّر في الاطلاع والقراءة الجادة المناسبة لمستواه.

ثم إن تغيَّرت عقليات الأساتذة المُبجلين، ستظهر طرائق جديدة في التدريس، وسنرى أن التعليم ليس في المدرسة فقط؛ بل أيضاً في المساجد وفي المجالس والطرقات وفوق وسائل المواصلات وعلى مواقع التواصل.. في رسالة للجميع مفادها أن المعلم أينما حلَّ، حلَّ معه العلم والوعي، كأنما هو غيث؛ أينما وقَعَ نفَع!

وما أجمله من منظر حين نرى أستاذاً حوله طلاب مُلتفون، في وقت غير دوام المدرسة! 
تخيلوا يا سادة أن هذا الشيء البديهي صار حلماً لنا!

أنا لا أكتب هنا بسخرية، أو أنظر بعين الناقِد الحصيف!
ولكني كغيري من الطلاب الذين افتقدوا لهذه الأشياء، ولولا أننا ربما أنقذنا أنفسنا بالقراءة الذاتية، لبلغنا في التفاهة الحد البعيد!

وكذلك الآن لا نريد أن نرى هذا مع إخواننا الأصغر منا، بني التسعة عشر والعشرين وما دونهم، الذين لا يكاد أكثرهم يكتب سطراً صحيحاً بالعربية الفصيحة! وربما لا يكاد يحفظ جزءًا واحداً من القرآن!

والله إن هؤلاء ضحايا!
وما قيمة التعليم اثني عشرة سنة إن خرج منه الطالب بهذه الحالة المثيرة للشفقة؟!
ثم يدخل الجامعة والحال هو الحال! بل ربما التقى بصحبة أسوأ من صحبة المدرسة؛ تُفسِد ما بقي فيه من صلاح!
فماذا تنتظرون منه بعد هذا؟!

أيها الأب..
لستُ ألقي اللوم كله عليك، ولكنك حتماً مشارك في التقصير؛ فالشاب في العشرين أو قبلها أو بعدها لا يرى الحياة إلا من منظور الطعام والقات والدخان والتنزه مع الأصحاب! وربما معاكسة الفتيات!

بينما أنت الذي قد وصلتَ إلى الأربعين والخمسين، قد رأيتَ الصِعاب، وكابدتَ العيش، وذقتَ المُر لأجل أن تؤسس بيتاً، وتُجاهد لتكون أباً وزوجاً وموظفاً في آنٍ واحد!

بعد هذا، قل لي: لماذا لا تغرس هذه المسؤولية بداخله، وتصنع منه رجلاً قبل أن يصل سن البلوغ؟!

أرجو ألا تأتيني بحُجَج واهية، مثل أنه لا زال صغيراً، أو أنك تُفرغه لأجل الدراسة! لأن الواقع سيثبت لك كما أثبت لغيرك أن الدَلال يُفسد الشباب، وأن أكثرهم ليسوا أهلاً للدراسة وهم في حالهم هذا، فلا بد من تغيير فِكرهم، بل ربما أنت أيضاً تحتاج إلى تغيير فِكرك قبلهم!

يا سادة.. اعذروني على جُرأتي ولكن!
قبَّح الله الحزبية، وقبَّح الله الهواتف، وقبَّح الله القات والدخان، وقبَّح الله مجالس الغيبة والنميمة.. كل هؤلاء أشغلوا الشباب عمَّا ينفعهم، وأغرقوهم في تُرَّهات الحياة ووَحل التفاهة وأوديتها المظلمة!

أنقِذوهم يا سادة حتى تناموا قَريري الأعيُن في بطن الأرض، وقد خلَّفتم بعدكم جيلاً يُقيمون الدنيا ويُقعدونها لأجل أحلامهم، وكما صنع منكم آباؤكم رجالاً أكفاء، في ميادين العلم والعمل، اصنعوا منهم مثلكم! وورثوهم مبادئكم وأخلاقكم!

أرأيتم يا سادة، لو أننا وقفنا جميعاً كتفاً بكتف، الآباء والشباب والفتيات؛ فاهتممنا نحن بالإعداد والعلم، وتوفرت لنا فرص العمل، واهتمَمنَ النساء بإعداد الفتيات ليكوننَ أمهات ونساء صالحات، واهتم المعلمون بالتدريس وتربية الجيل تربية صحيحة، وخفَّض الآباء المهور، وشدَّ الشباب سواعدهم للزواج، هكذا سينتج لنا جيل قوي علمياً وفكرياً، وبيوت صالحة مُحصنة، ومجتمع متماسك ومُنتِج.. لا تؤثر فيه الشهوات ولا الشُبهات، ولا تتخطفه الأفكار الهدَّامة، ولا ينجرف خلف التيارات المظلمة.
حينها فقط نضمن لهم مستقبلاً مشرقاً، ونضمن لكم أن تموتون وأنتم مطمئنون!

وهذه الخامسة! وفيهنَّ كفاية إن شاء الله!

دمتم بخير ودامت منطقتنا وبلادنا وكل بلاد الإسلام بخير.

🖋️ محمد بن هيكل الأكحلي - ١٢ ذي القعدة ١٤٤٥.

قناة بذرة وفكرة:
www.tg-me.com/بذرة وفكرة/com.bethrahwafekrah
79- أثواب الأدباء!

مهلاً! لا تظنوا أني سأتحدث عن جبة شاكر أو ثوب الطنطاوي، ولا قبعة العقاد، أو الطربوش الأحمر الخاص بالرافعي!
حديثي هنا عن الأثواب التي يُلبِسونها أقلامهم!

هل قرأتَ "رسالة في الطريق إلى ثقافتنا" لمحمود شاكر؟
أو "تعريف عام بدين الإسلام" لعلي الطنطاوي؟
هل اطلعتَ على "وحي القلم" للرافعي، أو "العبقريات" للعقاد؟

هذه هي أجمل أثوابهم رحمهم الله.. وإذا كان الأدب يُخرِج لنا مثل هذه الكتب، فهو شيءٌ نبيل والغفلة عنه مذمومة!

حين نقف أنا وأنت ومعشر القراء ونفتح كتاباً، سنرى أمامنا الأدباء وهم يخلعون عن ربقتهم كل القيود؛ فيتكلمون عن الدين والعلم والأدب والفكر والحب والحياة وكل شيء!

لكن قليلهم يُصيب، وأكثرهم يخبِط خَبطَ عَشواء!
فإذا كان الشعراء يقولون ما لا يفعلون -بنص القرآن-، فما بالكم بالأدباء الكُتَّاب وهم أعلى كعباً من الشعراء! وأكثر حريةً منهم، ولا وزن يُقيدهم ولا قافية؟!

لا شك أنهم سيُخطئون، خاصةً أن مادتهم الأدبية تقودهم إلى أن يقرؤوا ويكتبوا في أمور وعلوم كثيرة وإن لم يكونوا من أهلها!

وقد بالغ أحد الأدباء فقال: إن الكاتب يحتاج أن يعرف كل شيء، حتى حديث النساء في خدورهن!

حتى أنك تجد منهم من يقتَات بأدبه وشعره؛ فيمتدِح به المُتردية والنطيحة!، ولا يستحيي أن يمدح اليوم من كان يذمه بالأمس؛ لأن الحديث ليس حديثه، بل حديث الدراهم التي عُرِضَت له!
وسيكون من الحماقة أن أذكر لك مثالاً أو اثنين، فأنت تعرف عدة أمثلة على هؤلاء!

وأما قول قائلهم: "والشعر في مَعزلٍ عن الدين" فليس على إطلاقه؛ بل الدين قاضي على الشعر والأدب، فما وافق قَبِلناه، وما خالف رميناه ولا كرامة!

فلسنا نوافق الأدباء والشعراء على ما وقعوا فيه من الأغلاط الشنيعة.. بل نردها عليهم، فمن تاب منهم نفع نفسه، ومن أبى وعاند فهو رهين كلماته عند ربه.

أحمد شوقي أمير الشعراء المعاصرين بلا أدنى شك، ومع جلالة مكانته في الشعر عند النُقاد؛ لكن لا أحد يُبرر بعض أبياته الشنيعة التي هي للكفر أقرب منه للإيمان.

ونزار قباني حين أفحَشَ في الغزل غير العفيف رده وانتقده أكثر النقاد، بل إن النفوس السوية تأبى سماع كلامه ذاك، وربما صنفه بعضهم أنه الحامل لراية عمر بن أبي ربيعة في هذا العصر!

وأما العقاد والرافعي وجبران بعد أن زلَّت أقدامهم في التغزل بتلك الأديبة! نقص وزنهم، وأخرجوا من التآليف عن الحب أسوأ ما لديهم.. ولا تسأل حينها لماذا انتقدها الأديب الفقيه علي الطنطاوي وحذر القراء منها، وهو الذي أشاد كل الإشادة بهم في بقية ما كتبوه!

ناهيكَ عمَّن تلوثوا بلوَثة السياسة؛ كطه حسين ونجيب محفوظ وأحمد مطر وغيرهم.. فنقصت مكانتهم من هذا الباب وغيره.

كل هذه ردها أهل الأدب على أصحابها كما ردوا هجائيات الحطيئة وخمريات أبي نواس ونقائض الفرزدق وجرير.. أما الأخطل فهو نصراني، فالقول فيه ما هو مُقرر عند الفقهاء: ليس بعد الكفر ذنب! وإن كان مُخاطَباً بفروع الشريعة، لكن لا شيء أشد من الكفر.

ولا يكفينا مجرد نقد النُقاد للأدباء والشعراء؛ فأكثر ملاحظاتهم هي لغوية بحتة، هذا على أن كثيرين منهم يلتزمون في مناهج نقدهم بعبارة "والشعر في مَعزل عن الدين" وقد بيَّنا خطأ هذا.

بل لا بد من نظرة أخرى نقدية من باب وزن الأدبيات بميزان الشريعة.. نرقى من خلالها إلى رتبة الأدب الجيد، العفيف اللفظ، الرفيع المعاني، السامي الفكر.

ولعل هذا أحد أسباب تميز بعض الأدباء على بعض من هم أكبر منهم؛ كابن قتيبة من المتقدمين وجرير وأبي تمام من الشعراء، والطنطاوي والإبراهيمي من المتأخرين وغيرهم، رحمة الله على الجميع.

فكان لا بد أن يلبس الأديب ومثله الشاعر ثوباً عفيفاً شريفاً، ويحافظ على مبادئه ويتحرى قول القائل -سواءً كان الشافعي أو الدينوري-:
ومـا من كـاتبٍ إلا سيفنى   ويُبقي الدهر ما كتبت يداه
فلا تكتب بكفك غير شيءٍ  يسُرك في القيــامة أن تراه

أتحدث هكذا بصفتي قارئ مبتدئ في الأدب، وأنصح صَحبي وإخواني بمثل هذا، ألَّا ننجرف خلف روعة الأقلام وحلاوتها؛ فما كل من اشتهر أو امتدحه الشعراء يستحق هذا!

الأمر وما فيه أنك لو خلَّدتَ نفسك في ذاكرة الشاعر أو الأديب، سيُخلدك هو في ذاكرة التاريخ! سواءً بالمدح أو القدح!

وهل كنا سنعرف سيف الدولة لولا المتنبي!
ومَن المعتصم لولا أبو تمام! وغيرهم كثير!

والذي أرى أن أقتفيه مستقبلاً لو كتب الله لي أن أكون صاحب قلم.. ألَّا أنتهي حتى أجعل كل من يعرفني أو يقرأ لي يُحب العلم والأدب!
وأن يقرأ مقالي كلٌ من المُحدث والفقيه والأديب والشاعر والنحوي والعامي فيستفيدون جميعهم!

وأما قلمي الذي لديه إلى الآن قبعة وعمامة وثلاثة أثواب تقريباً.. أريد أن أملأ له دولاباً كاملاً! حتى ألبس لكل حالٍ ثوبه المناسب، وأما إن طغى يوماً، وانحرف عن الطريق، فسأُلبِسه ثوباً أبيضاً وأدفِنه بين رماد الورق!

دمتم بخير.

🖋️ محمد بن هيكل الأكحلي - ١٣ ذي القعدة ١٤٤٥.

قناة بذرة وفكرة:
www.tg-me.com/بذرة وفكرة/com.bethrahwafekrah
80- يوم الوحدة اليمنية!

أعود لألبس اليوم بدلة السَاسَة اضطراراً، وأتقلَّد العمامة..
ولَعَمري ما فسد حالنا إلا يوم أن جعلنا السياسة في مَعزلٍ عن الدين!

وليس يغيب عني قول أهل العلم: من السياسة اليوم ترك السياسة!

وما كلامي هنا بمعارضٍ لقولهم؛ ولكن نهيهم محمولٌ على الخَوض فيها بعد أن تلوَّثت بدساتير الغرب، فما من عاقلٍ -فضلاً عن عالمٍ- يقول بإمكان وزن السياسة بشيءٍ غير الدين!

حسناً.. أعتقد أن هذه مقدمة جيدة، لأدخل في صلب الموضوع.

يوم الوحدة اليمنية الذي كان يوم 27 شوال 1410، الموافق لـ 22 مايو 1990 للميلاد.

هل نسميه عيداً؟ لا.
هل نحتفل به؟ لا.
وما حجتنا لهذا القول؟
حجتنا هو نبينا وخليل ربنا ﷺ حين قدم المدينة ووجد الأنصار رضي الله عنهم يحتفلون بأعياد لهم منذ عصر قبل الإسلام، فقل لهم: إن الله قد أبدلكم بهما خيراً منهما يوم الأضحى ويوم الفطر.

فكان قوله تشريعاً لهم ولنا بعدهم، فلزمنا اتباعه.
وما عارضه أجدادنا الأنصار وقالوا: قد ألِفناها من قبل مجيئك!
ما قالوا هذا، ولكن كان لسان حالهم ومَقالهم: سمعاً وطاعة.
هذا هو التنزيل الشرعي لأصل المسألة، والذي عليه جماهير أهل العلم من السَّلَف والخَلَف.

ثم هل يلزم من هذا القول أننا لن نفرح بوحدة اليمن؟
لا، بل ما من مسلم غيور على وطنه إلا ويفرح بوحدة أرضه وبلاده، وانتزاع قيود القومية الذميمة من نفوس الشعب، وإخلاص نفوسهم للولاء لله ورسوله ﷺ ثم لأراضي وطنهم الإسلامي.

ولكن فلتَكُن الفرحة لجوهر الأمر الذي استفدنا منه حقاً في واقعنا، وهو مشروع الوحدة نفسها، وليس مجرد الشعارات والبهارج في الشوارع، فما لهذه قيمة عند العقلاء، بل ولستَ ترى القامات الكبيرة يشاركون فيها!

والإنسان بهويته الإسلامية يفرح بما يصلح به وطنه، ويخدم المسلمين، ويُذيب بذور الشِقاق والنزاع الذي كاد أن يستوطن في النفوس، لولا لطف ربنا ورحمته جل وعلا.

وهنا نرى منقبة ذاك اليوم حين اتحد شطرا اليمن، أرضاً وحكومةً وشعباً، فأزالوا عنهم كل الأُطُر والأغلال التي فرضها الاستدمار البريطاني على عامة الشعب، ولن أغض الطرف عن بعض حقراء السَاسَة الذين كانوا يداً خفية للاستدمار، ولعبوا بالأوضاع من الداخل، وهيئوا العرش قبل مجيء الاستدمار نفسه!

ثم جاء وأفسَدَ وخرَّب، ورحل إلى حيث ألقَت رحلها أم قَشعم!

ولكن..
ما الذي جعل الناس ينتظرون عشرين عاماً من بعد خروج الاستدمار (1967 ميلادي) ليحققوا الوحدة في (1990 ميلادي)؟!

كان السبب ولا شك الأفكار الخبيثة التي غرسها القوم في شعبنا، وأوقد فتيلها بعض السَاسَة، لأنها كانت تخدم مصالحهم الشخصية، ولو أنهم فقهوا قاعدة: "المصالح العامة تُقدم على المصالح الخاصة"، من شريعتنا الحنيفة أو حتى من القوانين الغربية التي يُقدسونها، لَمَا فعلوا فِعلتهم تلك، ولكن الاستدمار لا دين له!

وحسب التوصيف التاريخي أن بلادنا اليمن الحبيب كان مشطراً إلى شطرين، الشمال يحكمه أئمة الزيدية، والجنوب اغتصبته دولة الاستدمار البريطاني، وبعد التخلص من الاثنين، توحَّد الشطران، وتلاحمت أصول الدولتين لتعود كما كانت منذ آلاف السنين: أرض اليمن السعيد، إلا أن الأرض عادت ولكن السعادة لم تعد بعد!

ولكن الأمر وجوهره أن وحدة القلوب أهم من وحدة أشبار الأرض، واتحاد الكلمة أقوى من اتحاد الحدود والشعار والعملة! واستمرار الوحدة قلباً وقالباً أهم من كل ما سواها في نفوس الشعب.

ولكن لو أنَّا نظرنا بعينٍ ناقدةٍ بصيرة إلى سياسة الاستدمار، لرأينا أنها لا زالت تعيش بيننا وتبيتُ في بيوتنا!
جاءت إلينا أجنبية غريبة، فألبسوها لباساً وطنياً كما يزعمون، وقالوا هي وليدتنا وبنت جلدتنا!

أحدثكم عن الحزبية يا سادة!
التي فرَّقت وقطَّعت وعاثَت في الأرض الفساد!
ولئِن كان الاستدمار يقسم الوطن نصفين، فإنها قد قسمت البيت الواحد قسمين وثلاثة!

جاءوا بدساتير الغرب ليُشرعوها في أرضنا.. رأوا الجسد قد ضُمِدت جراحه وبدأ يلتئم، فأبَوا إلا أن يُمزقوه مرةً أخرى وبسيوف أبنائه!

ألَا قبَّحهم الله وما جاءوا به، وأعاد الله مَجد البلاد يَمَناً واحداً شعباً وحكومة، تحت مظلة الإسلام، لا قومية تحكمه ولا حزبية تُفرقه!

دمتم بخير.

🖋️ محمد بن هيكل الأكحلي - ١٤ ذي القعدة ١٤٤٥.

قناة بذرة وفكرة:
www.tg-me.com/بذرة وفكرة/com.bethrahwafekrah
• طريق الغبار والمطر!

في الحديدة، كانت النار تشتعل من تحت الرمال، والغبار يتطاير ويرتطم بالوجوه كلكمات سريعة، يذكّر كل من تطأ قدمه الطرقات في هذا المكان أن الصمود عملة نادرة. هنا، قضيت أسبوعًا كاملًا، والأيام تبدو عصيبة، يكاد ذوبان الحلم أن يحتل التفاصيل المختبئة في زوايا الرحلة.

واليوم قررت السفر إلى صنعاء. السيارة تشق الطريق ببطء، تُبحر في قلب صحراء لاهبة كدلو يسحب ماءً من بئر. كيف يمكن للمرء ألا يعترف بعظمة خلق الله في هذه التحولات المفاجئة، عندما تحولت السحب في لحظة من نار مشتعلة إلى صنبور ماء، وبدأ صوت الرعد يهتف حولنا، يعلن عن قدوم رحمة السماء؟

بين ضربة مطرٍ وأخرى، وبين روائح الطين وحفيف الأشجار، غصتُ في تأملاتي. تأملت الشجر الصابر وسط الرياح، والحجر المطحون بفعل الزمن، والعجائز الواقفين على حافة الطريق بكل شجاعة. نقلوا بقاماتهم المنحنية قصص الوطن، كأن ظهر كل عجوز يشبه خريطة توحّد الأوجاع. إنهم هنا في انتظاراتهم الطويلة، يتحدّون جحيم الحياة، ويضربون لنا مثالًا في قياس الصبر على طريقتهم الريفية الصامتة.

فجأة، تتأرجح السيارة بين الحفر كراقص مجنون، فيضحك أحد الركاب قائلًا للسائق:
- "يا أخي، فكرة توظيف مقعدك في السيرك ما جت على بالك؟ يمكن نجيب ملايين!"
فيرد السائق بسخرية:
- "يا صاحبي، لو كنا نهتم بالأسفلت مثل اهتمامنا بالقات، لكنّا صرنا قدها وقدود!"

فتعالت الضحكات رغم انحناءات الطريق، لتخفف عن الركاب وطأة العناء.

أستمر في مراقبة فسيفساء الفساد المنتشرة على جوانب الطريق، كأنّها متاهة يصنعها الجشع للمساكين. لكن، رغم هذا الخذلان، أبقى متفائلًا. ففي نهاية المطاف، لا شيء يضاهي عنفوان التحدي في قلب هذا الشعب المقاوم. أؤمن أن صنعاء، رغم ضبابها والمطبات التي تعاني منها، لا تزال تضطرّ أن تبحث عن طريقها البسيط وسط جبال العبث والغبار.

مسحت زجاج نافذة السيارة بطرف قميصي الرطب، لأحظى ولو بلمحة من مشهد الأرض تحت وطأة المطر. عكست الطُرق الضيّقة وحدَات الضباب في المدائن، كأن الطرقات اشتعلت بمطر السحاب. فلا شيء أنقى من المساحات الضيّقة، ذلك الانحناء في الأرض الذي يشبه خلوةً داخلية، حيث نختبئ قليلًا لينكشف لنا الجوهر.

وحين وصلت إلى صنعاء، اختلطت قطرات المطر بالغبار، تتشكل صور واستعارات كأنها مرآة لأملٍ هارب. ستمضي الحياة هنا رغم الفساد، ونظل نتساءل عن مصير الطرقات التي نعبرها كل يوم دون وجهة جلية في الأفق. ويبدو الجواب بين تلك الأودية والقمم حاضرًا: لن يتغير الطريق ما لم نغسله بعرقنا، وما لم نضع جميعًا يدنا في يدٍ واحدة، ندفع حجر الفساد بعيدًا، لنرى الشمس تحرّر وجوهنا من ضباب السياسة والغبار الخانق.

🖋️ وسيم الزبيري - اليمن.

#أقلام_المتابعين.
السلام عليكم.
كيف حالكم جميعاً.

أود أن أحذف البوت ورابط الحساب من القناة؛ لأركز أكثر على الكتابة، واعذروني في الانقطاع عنكم.

سأنشره بعد أن أكمل سلسلة المقالات إلى المائة.. وفي هذه المدة سأكتب كثيراً إن شاء الله.

من أحَب شيئاً وأحَب نشره فليفعل وله الشكر، ومن لم يُحب فلا بأس.

خالص مودتي.
81- أربعون يوماً نادِلاً في مطعم! (الجزء الأول)

أيها السادة!
تعالوا معي في رحلةٍ إلى أحد المطاعم السياحية!

كنتُ ماكثاً في قريتنا بعد أن أكملتُ امتحانات السنة الأخيرة في الجامعة، فترة ذهبية قرأتُ فيها العديد من كتب الشريعة والأدب وليس عندي مواقع تواصل حينها، حتى وصلني اتصال من عمي يخبرني عن فرصة عمل في مطعم سياحي في مدينة عدن اليمنية.. التي تغزَّل بها المُتغزلون وسموها عروس البحر!

حزمتُ أمتعتي تاركاً قريتي خلفي، وناظراً إلى عدن أمامي، عبرتُ الجبال والصحاري والقِفار على متن سيارة رباعية الدفع، حتى وصلتُ.. وأقول لكم: كأنما دخلتُ "التنور" الخاص بصناعة الكعك!
من لا يعرف حرارة تلك المدينة سيظنني أبالغ!
كنتُ أرى الناس في الشوارع سُكارى وما هم بسُكارى! أو ربما أني أنا السكران من شدة الحر!

أمُر في الشوارع فأشم رائحة الطبخ في المطاعم، فأتعجب! لماذا الرائحة في المطاعم فقط؟ لماذا لا أشم رائحة الناس وهم يُطبَخون ويُشوون تحت حرارة الشمس؟!
ذهبتُ أغتسل في حمامٍ عام، ولكن حرارة الماء جعلتني أقفز قفزةً مثل التي أقفزها مع الماء البارد!
تباً.. ما هذا؟! الماء أسخَن من حر الشمس!

تذكرتُ قول التكلام الضبعي:

المُستجير بعمرو عند كُربته
كالمُستجير من الرَمضاء بالنار!

(الرمضاء هي التراب الشديد السخونة)

وقصة هذا البيت أن عمرو بن الحارث مرَّ على كُليب وهو بين الحياة والموت بعد أنه طعنه جسَّاس، فاستجار به، فقام عمرو وقتله!

وذلك الماء الذي استجرتُ به من حر الشمس، كان أنذل من عمرو بن الحارث ذاك!

وأما تلك الحرارة اللافحة فقد ذكرتني بحديث نبينا ﷺ كما في صحيح مسلم، حين ذكر ﷺ العلامات الكبرى لقيام الساعة، فكانت العاشرة: "... وآخر ذلك نار تخرج من اليمن تطردُ الناسَ إلى محشرهم"

إضافة إلى أن مدينة كريتر العدنية التي وصلتُ إليها هي المدينة الوحيدة التي تقع فوق أكبر فوهة بركان خامد في العالم!

ثم قضيتُ أمشي في الشوارع في موقفٍ شبيهٍ بموقف القاضي عبد الوهاب المالكي رحمه الله؛ حين كان يطوف في أزقة بغداد، باحثاً عن عملٍ أو طعام، وهو من أئمة الدنيا في العلم حينها، فقال:

بغــدادُ دارٌ لأهـل المـــال طيبةٌ
وللمفاليس دار الضنك والضيقِ
ظللتُ حيران أمشي في أزِقتها
كأنني مصحفٌ في بيت زنديقِ!

أنا كذلك كنتُ أمشي ولكني أبحث عن البرد! وعن الهواء النقي!
ذلك أنني شعرت بضيق نفس قوي! ولكي أأخذ نفساً عميقاً كنتُ أشهق شهقةً أكبر من شهقة شاربي (الشيشة) اللعينة!
شهقةً لو أن طفلاً أمامي لقمتُ بشفطِه إلى معدتي!
ثم أزفر زفرةً بالهواء الساخن كما تفعل التنانين في مسلسلات الكرتون!

ذهبتُ أتغدى في مطعمٍ قريب.. كان الطعام باهتاً لا طعم له عندي! والمراوِح في المطعم هزيلة جداً، وشكلها أخبرني أنها قد بلغت سن التقاعد!
أسمع لها عجعجةً ولا أرى طحيناً!
صوتها (تتزايط!) ملء المطعم، وليس ثَمَّة هواء بارد أشعر به!

ذهبتُ أصلي في مسجدٍ قريب، وهنا كأن السعادة ابتَسَمت لي!
ما أن دخلتُ لكأنما دخلتُ إلى ثلاجة!
كان المسجد مليئاً بالمكيفات والمراوح، والهواء بالغ البرودة والإنعاش!
وددتُ لو أني أصلي العصر أربع مائة ركعة بدلاً عن أربع!
لم أرِد أن أفارق المسجد يا سادة! ولكن هذه مُنية لا تُحقق عند القائمين على المسجد!

خرجتُ مرةً أخرى، واستقبلني صديق عمي، وذهب بي بسيارته إلى البحر الذي لم أستمتع بالنظر إليه وأنا في تلك الحالة!

في الصباح ذهبتُ إلى المطعم الذي سأعمل فيه!
استقبلني المشرف وأخذ بطاقتي الشخصية ثم عرَّف الإدارة والعاملين بي.

دخلتُ أنظر إلى الجميع وهم ينظرون إليَّ!
كانت وجوههم تنطقُ حسرةً عليَّ! كأنها تقول لي: أمَا وجدتَ أفضل من هذا المكان يا مسكين!
بدأ المشرف بتعليمي الأساسيات؛ أصناف الوجبات وأسعارها، ومراسم تنزيل الأطباق إلى الزبائن وأشياء أخرى!

أنا الذي ما عملتُ في مطعم قبل هذا، أقف الآن وأجدني ملزماً أن أحفظ اسم أكثر من مائة وجبة مع أسعارها!
لو أنهم أعطوني كتاب أدب أو تاريخ لكان الأمر أيسر عليَّ!

حفِظتُ الأطباق تدريجياً.. وكنتُ أستشير المشرفين والعمَّال القدامى في الأشياء الجديدة.

مرَّ أول أسبوع وكان مُرهِقاً جداً.. أربعة عشر ساعة عمل يومياً، ولا يغرنكم أن تقديم الوجبات سهل للغاية!

بل تبدأ المغامرة وأنت أمام الزبون وهو يتخير الوجبات، ويسأل عن هذه وهذه! ثم يُعطيك المال وتذهب إلى المحاسب لتشتري له وجباته، وتمُر في الزحام (وخاصةً وقت الظهيرة) وتذهب في طابور أمام المحاسب! ثم يعطيك الفاتورة تذهب بها أمام نوافذ المطبخ، وتأخذ مكانك مرةً أخرى في طابور الانتظار، ثم يعطيك الوجبات وهنا تكمن براعتك في ألعاب التوازن! حيث عليك أن تمُر من صالة الدخول المزدحمة جداً بالقادمين والمغادرين والعمَّال أمثالك.. عليك أن تمُر ومعك الأطباق دون أن تُسقِطها أو يسقط بعض الطعام منها.. والأمر صعبٌ لأنه وقت زحام، وتصِل حين تصِل إلى الزبون وأنت مُرهَقٌ وكأنك الناجي الوحيد من الحرب!
ثم لا تسألني عن شعورك إن قام الزبون بتغيير طلبه، وأراد تبديل الطعام!

وكذلك لا تسألني عن وقت الزحام حين يجب على كل عامل أن يحمل معه ثلاثة فواتير على الأقل، وكل فاتورة فيها ما يزيد على عشرة أصناف من الطعام، وعليك أن تُنزلها جميعها لهم جميعهم في نفس الوقت، ودون أي نقصان أو تبادل في الأطباق!

قلتُ لكم مَر أول أسبوع مرهقاً جداً.. كان العمل كثيفاً، خاصةً أن المطعم مُطِل على البحر بحوالي عشرين متراً فقط، والفصل كان فصل الشتاء، وهو الفترة الذهبية للسياحة في عدن!

دخل العديد من العمَّال من بعدي، كما هو شأن المطاعم في المواسم السنوية، وكان المشرفون والعمَّال القدامى يرون أننا عالةً عليهم، ويجب أن نُتقن كل شيء ونتعلم السرعة مثلهم، هم الذين قضوا سنوات عديدة في هذا العمل!

حين جاء الأسبوع الثالث تغير كل شيء!

كنا قبل الظهيرة نرتب الطاولات والمقاعد استعداداً لزحام وجبة الغداء، وفجأةً ظهر رجل باكستاني، دخل ليتغدى ولكنه لا يتكلم العربية، فبدأ العمَّال ببعض حركات المُهرجين أمامه قاصدين أنها لغة الإشارة، ولكن دون جدوى!

ثم تركوه على الطاولة بعد أن أصابوه باليأس! وراحوا يناقشون المشرف حول ماذا يقدمون له من طعام.

وهنا استغللتُ الفرصة لأظهر لهم بعض مهارتي!

ذهبتُ إلى الرجل ولم أبدأه بالسلام، حذراً أن يكون غير مسلم، وحدثته بالإنجليزية.. مرحباً بك وكيف حالك وماذا تريد؟
رد عليَّ بفرح بعد أن وجد أخيراً من يفهمه!
فرفع صوته فرحاً: وأين أنت منذ قليل؟ أصدقاؤك ما فهموني!

انتبه هنا العمَّال وأحد المشرفين، ورأوني أحدثه، فأتوا جوارنا يُحدقون في وجهي ووجهه ونحن نتحدث بالإنجليزية، وكأنهم ينظرون إلى مخارج الحروف من أفواهنا!

لقد رأوني كبيراً حينها..
يا إلهي! لدينا عامل يتحدث باللغة الباكستانية!

هم لا يعلمون أنها كانت فقط اللغة الإنجليزية؛ لأنهم ربما كانوا يهربون من دروسها في المدارس!

طلب مني الرجل وجبته، فذهبتُ أحضرها وأنا رافع رأسي والجميع يوسعون الطريق لي!
قلتُ في نفسي: أين أنت أيها الباكستاني منذ أول يوم!

تناول الرجل وجبته وغادر المكان وهو يبادلني أبلغ التحيات بالإنجليزية، وحدثني عن نفسه وأنه مسلم وطبيب ويعمل في مستشفى قريب من المطعم، فأخبرته أن يخبر أصدقاءه ليأتوا عندنا في أي وقت.

ما إن غادر، حتى تجمع العمَّال حولي يستجوبونني عن ماذا كنا نتحدث؟ ومن هو؟ وما هي لغته؟!
كنتُ أحدثهم وأضحك، وأقول لهم لقد أخفتم الرجل! لا أظن أنه سيأتي مرةً أخرى!
(طبعاً تعلمون أني لا أحدثهم بالفصحى، وإنما باللهجة التعزية المكسرة :))

لم ألُم أبداً أولئك العمَّال على استغرابهم؛ وذلك أن المرء عدو ما يجهله، وأكثرهم أصلاً لم يكملوا الدراسة، وبعضهم قد دفن عمره في المطعم، يعمل ويأكل ويمضغ القات فقط!

تأسَف حين تنظر إلى وضع شبابنا وهم يدورون في دائرةٍ مغلقة من الأكل والعمل وليس فيها علمٌ ولا تعلُّم!
لستُ أبالغ إن قلتُ أني كنتُ أنا وواحد آخر غيري الجامعيَين الوحيدَين من بين أكثر من خمسين عاملاً!

مَرَّت الأيام وبدأ الباكستانيون يتوافدون علينا، وأول ما يظهرون يسأل أحدهم: "وير إيز موهاميد ويذ جلاسس؟!"
ويقصدون: "أين محمد ذو النظارات!"
فأظهر أنا رافعاً يدي من بين الزحام، قائلاً: ها أنذا! إني قادم! ولكن طبعاً أقولها بالإنجليزية! "أم هير! كامينج ناو!"

وهذه المرة.. ليس العمَّال فقط، بل ترى حتى الزبائن ينظرون إليك وأنت تتحدث الإنجليزية! لا أقول أن لهجتي قوية وشبيهة بلهجة الأمريكيين، لا أبداً، بل رديئة جداً.. ولكن لأني شاب ذو لحية فالأمر غريبٌ عندهم من هذه الناحية! هذا رغم أنها نصف لحية، فكيف لو كانت لحيةً كاملة؟!

ولا يخفى عليكم أن سبب هذا هو النظرة الخاطئة عند الناس أن ذوي اللحى هم فقط دراويش في المساجد! وليسوا كذلك.

تعرفتُ على ثلاثة من أولئك الأطباء الباكستانيين، وقعدتُ يوماً معهم في طاولة نتكلم ونضحك، في منظرٍ أعجَبَ صاحب المطعم، ويخالُ لي أنه حين رآني معهم، بدأت تظهر في عيناه صورة الدولارات تماماً كما يفعل (مستر سلطَع) في كرتون (سبونج بوب!)

بدأوا يمازحونني حول لحيتي، ويحدثوني عن "أسامة بن لادن" وعن الإرهاب وأحداث الحادي عشر من سبتمبر! كنتُ أضحك وأتعجب معهم حول الأمر، ولكني أعتصِر ألماً بداخلي، كيف تشوَّهت اللحى أمام العالم!
سنة رسول الله ﷺ التي كان يتشامخ بها رجال العرب والإسلام أمام المجوس والفرس والروم.. هل صارت اليوم رمزاً للإرهاب؟!
قد قرأتُ عن ذلك كثيراً، ولكني لأول مرة أعيش ذلك الأمر.

وخلال تلك الفترة بدأ أيضاً بعض الهنود يتوافدون على المطعم، ولكنهم لم يكونوا مسلمين، بل هندوسيين يعبدون البقر قبَّحهم الله، ولكن ديننا يأمرنا بالإحسان إليهم ومعاملتهم بالرفق ما داموا مُسالمين؛ ليَروا أخلاق المسلمين.
كنتُ أحدثهم بالإنجليزية إلا أنهم يُكسروها كثيراً كما هو معروف عنهم، ولم يكونوا كأولئك الباكستانيين الذين هم شبه متقنين لها!
قدِمَ يوماً ثلاثة هنود، فهيئتُ لهم الطاولة، وقال لي أحد العمَّال: اسألهم أي نوع من اللحم يريدون، ثم أردَف قائلاً: أعطِهم ثلاث بُرَم من اللحم البقري!

التفتُّ إلى الرجل أضحك، وهو مستغرب!
قلتُ له: هؤلاء هندوس يعبدون البقر، تريدني أن أقدم لهم إلهَهم المزعوم! مطبوخاً أمامهم؟!
سيصرخون ويخرجون يبكون يا هذا!
فضحك العامل وضحك الهنود معنا ولا يعلمون لماذا نضحك!

...

هذه فقط بعض المغامرات في تلك الرحلة!
وما بقيَت ستكون في المقال القادم إن شاء الله!

دمتم بخير!

🖋️ محمد بن هيكل الأكحلي - ١٧ ذي القعدة ١٤٤٥.

قناة بذرة وفكرة:
www.tg-me.com/بذرة وفكرة/com.bethrahwafekrah
82- أربعون يوماً نادِلاً في مطعم! (الجزء الثاني)

أيها السادة..
اعذروني في أن ألبس بدلة السَاسَة قليلاً فقط!

دولة أثيوبيا القابعة في قارة أفريقيا، وعاصمتها الشهيرة "أديس أبابا"، يبدو أنها لا تُكفي سكانها حق المعيشة والمواطَنة!

وإلا فما بال الكثيرون منهم ينزحون إلى بلادنا اليمن ودول الخليج العربي؟!
يُصوبون قواربهم نحو السواحل اليمنية التي لا يُرَد فيها أحد!
حتى أنك تتعجب كيف يسلمون من قراصنة الصومال الذين يلعبون دور "قراصنة الكاريبي" في البحر العربي!
ربما لأنه لا شيء لديهم، وجيوبهم فارغة، وقادمين إلى اليمن ليملؤوها! ... مساكين لا يعلمون كيف هو وضعنا!

ما بال باب دولتنا مفتوحاً أمام الجميع؟!
أوَ أصبحَت دولتنا أرضاً للمَهجَر وملجأً لبلدان الجنوب الأفريقي؟!

لسنا نعترض على وجودهم؛ فالأرض أرض الله، وكل مسلم له حق في كل بلاد الإسلام، ولكن لو أن الأمر يتم تنظيمه ويخضع للرقابة!
لو يتم حساب عدد الوافدين، وحالتهم الصحية، وسجلاتهم الجنائية وأمور أخرى.. لا أن يُترك الحبل على الغارب!

حسناً.. سأعود إلى المطعم، خذوا عني بدلة السَاسَة حتى لا تتسِخ أكثر مما هي مُتسِخة بالسياسة الدولية الفاسدة!

في المطعم الكثير من إخواننا الشباب من أثيوبيا، جميعهم مسلمين ولله الحمد، ولا تستغربوا من قولي هذا؛ فبلادهم فيها أكثر من أربعين مليوناً من النصارى الأرثوذكسيين! بينما المسلمون ما يزيدون عن عشرين مليوناً فقط!

أولئك الشباب والذين يسميهم اليمنيون "الأورمو" نسبةً إلى بلدتهم بداخل أثيوبيا، عندهم همة ونشاط كبير للعمل، وكل من عمِل معهم يعرف هذا.
لا يتلكؤون عن الأعمال الصعبة، ويحبون العمل الجماعي، بل كنا نراهم وهم ينظفون المطعم في الليل ويبدأون بالأهازيج والمهاجِل الشعبية بلغتهم الأثيوبية، في شكل حماسي جداً رغم أننا لا نفهم منهم شيئاً!

وكنتُ حين أستيقظ لصلاة الفجر أجد واحداً منهم قد سبقني للصلاة، ثم صرنا نصلي جماعة مع اثنين آخرين من العمال اليمنيين، ثم بدأ يخبر أصحابه أن "المطوع" يصلي بنا الفجر جماعة، لأجدهم جميعهم يطلبون مني أن أوقظهم للصلاة، ولم يمر أسبوع في المطعم إلا ووجدتُهم جميعهم تقريباً يصلون الفجر، وأنا معهم واثنين يمنيين فقط.

أولئك الشباب الذين يتم تهميشهم في المعاملة، ويتقزز الناس من بشرتهم السوداء، وألسنتهم التي لا تنطق العربية إلا مكسرة، أثبتوا لنا -نحن العرب اليمنيين الناطقين بالعربية!- أن الاستقامة تحتاج إلى قلب صادق فقط.

وهم بهذا قد شابهوا جدهم صاحب رسول الله ﷺ، وأول مؤذن في الإسلام، والذي سمع نبينا ﷺ دف نعليه في الجنة، صاحب الكلمة الشهيرة "أحَدٌ، أحَد": بلال بن رباح الحبشي رضي الله عنه وأرضاه.

حين أعتقه الصديق رضي الله عنه، قال يومها الفاروق عمر رضي الله عنه: "أبو بكر سيدنا وأعتقَ سيدنا" يقصد بلالاً رضي الله عنه.
وهو بقوله هذا يطبق درساً تلقاه من رسول الله ﷺ؛ أنه لا فرق بين أبيض وأسود وعربي وأعجمي إلا بالتقوى.
وواجبنا أن نطبق هذا الدرس حين نتعامل مع غيرنا!

رضي الله عن صحابة نبينا ﷺ أجمعين، وجمعنا وإياهم مع نبينا ﷺ في جنات النعيم.. اللهم آمين.

كان ذلك درساً لن أنساه في ذاك المطعم.

ثم إنا كنا بعد صلاة المغرب نرتقب قدوم الصيادين لوجبة العشاء.. فيظهر علينا رجال ضخام الجسوم، حفاة الأقدام، ذوو أيدي ضخمة، ويأكل الواحد منهم مثل ثلاثة رجالٍ منا!
أولئك صيادون في خليج عدن، ومع طبيعة عملهم على القوارب في منتصف البحر، يصارعون الأسماك والحيتان، لا شك أنهم من أقوى وأصح الناس جسوماً.. وتراهم حين تراهم كأنك ترى رجال الوثائقي الشهير "سمكة التونة العنيدة!"

وفي ذاك المطعم لا تستغرب يوماً إن سمعتَ أصواتاً عالية بعد المغرب.. فتلك هي فِرَق كرة القدم!

ذلك أن الأندية العدنية تنظم دوريات مستمرة، وعادةً ما يقوم المدربون بإحضار اللاعبين الفائزين ليحظوا بوجبة عشاء جماعية حماسية، الفريق الأساسي مع الاحتياطي مع بعض المشجعين، ويزدحم المطعم جداً مع أصواتهم العالية حتى أثناء الطعام!
وليس هذا فقط.. بل يضعون الكأس في منتصف المائدة لتقر أعينهم أثناء الأكل!
وهي حركة غير جيدة، ومُخِلة بالذوق العام أمام الناس، حين ترى مجموعة مراهقين يتصايحون وهم يأكلون!

ثم أحدثكم عن أمرٍ محزن يحدث في تلك المطاعم الساحلية وجعلني في صدمة حقيقية.

منذ أول يوم وأنا أعمل في صالة الأكل الرجالية، حتى حدث مرةً أن وباءً أصاب نصف العاملين، وتم إيقافهم جميعاً عن العمل حتى تتحسن صحتهم، حينها وقع ضغط عمل شديد على بقية العمال، وأصبحت صالة العائلات شبه فارغة من العمال مع كثرة الزبائن!
جاء المشرفون يستدعونني أنا وبعض العمال لنغطي العَجز هناك في صالة العائلات، حاولتُ التملُّص ولكن دون جدوى!
الأمر محرج يا سادة! ولكنهم أصروا عليَّ لأنهم يرون أني "مطوع" وعيني قصيرة! والوقت كان وقت زحام لا يحتمِل المفاوضات!
فقلتُ في نفسي فقط سأناولهم الأطباق إلى خلف الحجرات العائلية المغطاة بالستائر، ولن أرى شيئاً.. لكني حين ظهرتُ لأول وَهلة صُدِمتُ حقاً، وشيء من اللا شعور أصابني، وكل الأصوات حولي خَفتَت وكأني في حلم! ولم توقظني إلا يد المشرف على كتفي وهو يقول: أسرع يا مطوع!

ما ذلك يا سادة!
رأيت النساء يأكلنَ مع الرجال!
الصالة كلها مكشوفة والنساء متبرجات كأكثر ما يكون، وكاشفات وجوههنَ مع شيء من الشعر والسواعِد ويكأنهنَ في بيوتهن! ذلك أن المطعم مليء بالمُكيفات والمراوح فيدخلنَ النساء والشابات للتبرد من حر الشوارع!

عيني ترى جمال الشابات، وأنفي يشم أطيب الروائح والعطور هناك! وهن يأكلنَ ويتضاحكنَ أمام الرجال!
في منظر يفتِن أي رجل ولو كان راهباً متعبداً!

تريدون الحق يا سادة؟
لم أرَ رجلاً واحداً في تلك الصالة.
فالرجل لا يُحضِر نساء بيته ليأكلنَ أمام الرجال وهم ينظرون إليهن! وقبَّح الله الحرية والانفتاح الذي يريدون تطبيقه! وما ذلك إلا طريقاً إلى العهر والفساد.. واعذروني على شناعة الألفاظ!

قدَّمتُ وجبتين أو ثلاثة لبعض كبيرات السن في الطاولات أمام الباب، ثم غادرتُ مسرعاً إلى صالة الرجال.. المشرفون أخبروا المدير، وتم استدعائي إلى الإدارة، ويسألني المدير -وهو رجل ملتحي ويزعمون أنه ابن شيخ كبير- فقال لي: ما لك يا مطوع؟!
قلت له: ما لي؟ هذه صالة طعام؟!
هذه صالة أفراح وليس طعام!
فضحك وقال لي بكل برود: الضرورات تُبيح المحظورات!

ناقشته بشدة وأنا أكتم غضبي من جرأته على الدين، وسردت له ثلاثة أحاديث نبوية، تلك التي كنت أحفظها في ذلك الوقت، وأنا أدري أنه يعرفها وغيرها أكثر مني، ولكنه بدأ يبرر لي أن الحجرات المغلقة كان يقع فيها أمور أكبر من هذه، وأن هذا أخف الضررين، قلتُ له: ولِمَ لا تصنع حلاً وسطاً كأقل شي.. أن يتم تركيب ستائر مُتدلية من السقف، تنزل إلى سطح طاولة الطعام، فتغطي رؤوس وصدور الجالسين، بحيث ترى الرجل وامرأته من الخارج وهي متسترة، ولو كشفت وجهها لا يراها أحد.. ويتم حل المشكلة!
ولكنه بدأ بالمراوغة وأن جميع مطاعم عدن هكذا، وأنني سأعتاد الأمر!
خرجتُ من عنده وأقول ليته يحلق لحيته تلك، ولا أن يتستر بها أمام الناس ببعض القواعد الشرعية التي ليس هذا محلها!

"الضرورات تبيح المحظورات!"
نعم هذه قاعدة شرعية، ولكن هناك قاعدة شرعية أخرى تقيد هذه القاعدة وهي: "الضرورة تُقدَّر بقدرِها".

ثم أين الضرورة في هذه الصالة أصلاً؟!
لو اضطر الأمر يغلقها أو يحولها صالة رجالية وانتهى الأمر، وذمته سالمة صافية!
أما أن تُهيئ المنكر والمعصية للناس، وتتحجَّج أنها ضرورة، وتريد السلامة بعد هذا؟!
هيهات.. لن تشم ريحها حتى!

ولا زلتُ إلى الآن أذكر موقفاً شهماً حدث أمامي، حين أتى شاب صنعاني تبدو عليه (الشحطة) ومعه زوجته في السيارة، ثم نزل وحده وقال لي وللعمال أين صالة العائلات؟ أشرنا إليها فدخل وحده، وما أن دخل حتى خرج مسرعاً غاضباً وصوته ملء المطعم باللهجة الصنعانية: "جد أنا جليل حيا لو أديتها هانا" ويقصد: "أنا قليل حياء إن أحضرتُها هنا" يقصد زوجته.
ثم غادر المطعم على الفور، في مشهد كان الجميع ينظر إليه ويُخفون إعجابهم به، فقلتُ لهم: هذا هو الرجل الصح! فرَمَقوني بأعينهم، ثم انصرفنا.

ثم قصة أخرى مُحزنة أيضاً.. واعذروني، ولكنه الواقع!

ذلك أنه كان في كل ليلة كان يبقى الكثير من الطعام من بعد الزبائن وبعضه من المطبخ، فيضعونه في القمامة أعزكم الله!
بعض الطعام يكون نظيفاً جداً ولم يُمسك به أحد!
أو يأتي أحد المُبذرين -من المنظمات أو المسؤولين- ويحجز طعاماً بثلاثين أو أربعين ألفاً ثم لا يأكلون ولا حتى نصفه!
والباقي أكثره يُرمى بعد أن يأخذ بعض العمال ما يشتهونه منه، بدلاً عن قليل الطعام الذي يُقدم لنا!
ولم أكن أرتضي أن أأكل بعد أحد ولو لقمة واحدة! ولو كان طعاماً غير ممسوس!
ولم أكن أقبل أخذ (البقشيش!) التي فيها ذلة وخنوع للزبون، وهو يعطيك إياها متفضلاً عليك، فاليوم يعطيك وغداً يرفع صوته عليك إذا تأخرت وجبته!
كان العمال يستغربون من فعلي هذا، ولكني لم أكن أستغرب حين أرى بعضهم تتم إهانته من الزبائن! لأنهم هم الذين وضعوا أنفسهم في هذه الحالة!

ولكني لم أكن أعيب على من يأكلون ما بقي من طعام، فالطعام نظيف، وأكله أفضل من إهداره.

وذلك الطعام الذي كان يُرمى، يمكن أن يكفي أكثر من ثلاثين شخصاً يومياً.
ذهبتُ مرةً إلى المدير -المطوع مظهراً فقط!- وأخبرته أن هذا إهدار لنعمة الله رغم وجود من يستحقها.

أخبرته أنني يومياً في وقت الاستراحة، حين أذهب لصلاة العصر في المسجد القريب أرى الكثير من المُهمشين راقدين في الشوارع، باحثين عن الظل من حر الشمس وعن الطعام!
فلماذا لا نرتب الطعام في أكياس ونوزعه لهم؟! وقلتُ له أنا سأتكفل بالأمر في طريقي للمسجد.
قال لي: حدث مرةً أن أحد المطاعم فعل مثل هذا، ومرض بعض الناس في الشارع وقامت البلدية بمحاكمة المطعم وتغريمه لعلاجهم.

قلتُ له: هم مرضوا مرةً واحدة من الطعام، ولكنهم يمرضون كل يوم من الجوع! أفنجعل الشاذ قاعدة؟!
ثم إن طعامنا نظيف! وسيتم توزيعه لهم بعناية.

قال لي: أنت ستفعل لنا دوشة!
قلت له: سأوزع لهم الطعام بعد نهاية الدوام، الساعة الثانية عشرة ليلاً، في أكياس ليس عليها اسم المطعم، وهكذا لن يعلم أحد من الذي أعطاهم، ونكون قد قدمنا لهم الخير بطريقة آمنة!
ولكنه بدأ بالتعذر والتحجُّج مرة أخرى، وخرج من الموضوع سامحه الله!

وهذه القصص وخاصة مع هذا المدير، أنقلها لكم بحروفها هنا، وأنا مسؤول عما أكتب، ولستُ أقلق حتى إن وصلت إليه وقرأها، ولكن ليعلم الناس ما يحدث هناك في المطاعم.

كانت هذه القصة في آخر أسبوع لي عندهم، ثم بدأتُ أشعر أن عليَّ المغادرة، وليس هذا السبب الوحيد ولكن بجانبه أسباب أخرى.. وذلك أني أقضي في العمل أربعة عشر ساعة يومياً، ولم أكن أقرأ إلا ساعة ونصف يومياً فقط! هي ساعة الاستراحة في العصر، فكان وقتي مهدوراً ولأجل راتب لا يسوى خمسين دولاراً بعملة تلك المنطقة!

وأما عن القراءة..
أربعون يوماً كانت على قسمين: عشرون يوماً قرأتُ فيها كتاباً أدبياً دسِماً.. قريباً من ستمائة صفحة، والعشرون الأخرى كتبتُ فيها قريب من مائة صفحة من الفوائد التي كنتُ أضع لها (لقطة شاشة) من ذاك الكتاب، ولا أزال حين أقرأها الآن أستذكر تلك الأيام!

لم أفارق الوِرد اليومي من القرآن في تلك الفترة طبعاً، وهنا أتقدَّم بالشكر للأخ المشرف عليَّ، وذلك أنه كان ممنوع استخدام الهواتف أثناء الدوام، ولكنه كان يسمح لي بساعة يومياً عند قلة الزبائن أقرأ فيها جزئين، لم يُسمح لي بهذا إلا بعد أن تأكدَت الإدارة بكاميرات المراقبة أني لا أتسلى بالهاتف في مواقع التواصل!

وأختم هذه الحلقة بشيء من الطرافة!

من منكم يعرف كرتون "سبونج بوب!"؟!
مجموعة من الحيوانات البحرية يعملون بداخل مطعم مستر سلطَع في قاع الهامور!

حماسة سبونج بوب! تشاؤم شفيق!
جشَع مستر سلطَع! ثقالة دم بسيط!
كل هذه الأشياء تراها في كل مطعم كبير!
لن أذكر الأشخاص ولكني كنتُ أنا وكثير من العمَّال شبيهين بـ سبونج! وغيرنا شبيهون بمستر ... وشفيق و...!

المهم أيها السادة!
اقترفتُ هناك ذنباً دون أن أعلم!

كان لدينا وجبة اسمها "بروست بنجيز" وهي مشهورة في المناطق الساحلية، وهي عبارة عن أذرع حيوان الحبار مقلية بالزيت بطريقة البروست الشهيرة!

كنتُ أقدمها بشكل يومي للزبائن لأنها مرغوبة عندهم، ولم أفكر يوماً بما أفعله! حتى اكتشفتُ يوماً أن ذلك "البنجيز" هو حيوان "حبار البحر"!

وماذا يعني هذا؟

هذا يعني أني كنتُ أرتكب جريمة وأنا أضحك في وجوه الزبائن!
هذا يعني أني أقدم لهم "شفيق حبار" مقتولاً مطبوخاً يا سادة!

شفيق الذي لطالما كان صديقاً لـ سبونج بوب رغم تشاؤمه!
والذي كنتُ أحب مشاهدته في صغري! ها قد تلوثت يدي بدمه!

ربما يكون الأمر تافهاً.. لكن مُحبي ذاك الكرتون يُقدرون شعوري الآن! حين تُقدم أبطال طفولتك للناس وهي مقتولة مطبوخة! :)

... تباً!

وفي آخر يومين لي في المطعم كنتُ قد نويتُ السفر حقاً إلى صنعاء، فعزمتُ أمري واستشرتُ بعضاً من أهلي واستخرتُ ربي، ثم أخبرتُ الإدارة ليجهزوا لي راتبي وبطاقتي، وكانت نهاية شهر.. وهذا لم يعجبهم!
من الذي سيتعامل مع الأجانب بعد اليوم؟! المطوع سيسافر!
وهذا كان اسمي المشتهر في المطعم.. وأحببته جداً! :)
ثم أرسلوا لي مع المشرف أنهم قد رفعوا راتبي ٣٠٪، ولكن كان الأوان قد فات!

لم أكن بتلك القيمة عندهم؛ فأكثر العمال القدامى كانوا أمهر مني وأسرع، ولكني ربما سددتُ لهم ثغراً وهو خدمة الزبائن الأجانب!

عزمتُ حقاً على الرحيل، وودَّعتُ الأصحاب، وأخبرتُ الزبائن الأجانب قبلها بيوم ووالله إنهم حزنوا، والإخوة الأثيوبيين حزنوا وقال لي أحدهم بلهجته المكسرة: "مطوع يسافر، أورمو ما في صلاة!"... لكني نصحتُهم، وأنا أحوج منهم إلى النصيحة!

استلمتُ راتبي مساء الجمعة، وباتَ معي تلك الليلة فقط، ثم اختطفتُه ووضعتُه في (جونية!) وسافرتُ في الصباح! :)

دمتم بخير! وأرجو من شفيق أن يسامحني!

🖋️ محمد بن هيكل الأكحلي - ١٨ ذي القعدة ١٤٤٥.

قناة بذرة وفكرة:
www.tg-me.com/بذرة وفكرة/com.bethrahwafekrah
في مثل هذا اليوم (٢٠ من ذي القعدة) سنة ٧٢٨ هـ توفي شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله..

يقول الإمام المفسر ابن كثير:
"ماتَ ابنُ تيمية، فكشفتُ عن وجهه وقبَّلتُه، وقد علاهُ الشَّيبُ أكثر مما فارقناه..
لم يترك ولداً صالحاً يدعو له
لكنه تركَ أُمَّةً صالحةً تدعو له!" اه.

هذا وقد نُودي بدمشق يومًا ما:
"من اعتقد عقيدة ابن تيمية حلَّ دمه وماله!"

وها قد مات ذلك المنادِي، والكاتب، والذي أمر، ومات ذكرهم، واندثروا.
وبقي التوحيد، وعِلم شيخ الإسلام ‎ابن تيمية يرفرف في سماء المجد شامخًا عاليًا حتى اليوم.

رحمه الله وجزاه عنا وعن جميع المسلمين كل خير.

ومن يريد أن يعرف سيرة هذا الإمام الحَبر المُتفنن في كل العلوم.. فليقرأ مقالي هذا عنه الذي نشرته قديماً:
https://www.tg-me.com/بذرة وفكرة/com.bethrahwafekrah/41
83- الإدمان داء الشباب!

ليس الحديث عن بابلو إسكوبار والمخدرات!
ولا حتى عن القات اللعين والمليارات المُهدَرة فيه!

ولكنه عن الإدمان الذي لا نعترف به، بل ولا نكاد نشعر به!
وهو حقاً قد تسلَّل فينا وانتزعنا من واقعنا، وراح يعصِف بنا في آفاقٍ بعيدة.

إدمان الهواتف والمواقع!
الذي صار أفيون الشباب، في حين كانت كرة القدم هي أفيون الشعوب!

وليس كاتب هذه الأحرف بأحسن حالاً من قارئها!

ومن منا يسلم من هاتفه؟!
بل حتى التقي البار الذي يتحاشى رؤية صور النساء وسماع الموسيقى، ولا يلهيه هاتفه عن الصلاة؛ فلن يسلم من ضياع وقته في التصفح!

تبدأ جلسة التصفح في الأمور الواجبة من طلب علمٍ أو تنفيذ عملٍ أو صلة رحم، ثم نتخطاها إلى المُستحبات من نشر الخير ونفع الناس، ثم نُجاوزها إلى المُباحات ولا نزال نرعى حول الحِمى حتى نقع فيه!
فنجد أنفسنا قد وقعنا في الحرام بضغطة زر؛ من صورة أو صوتية أو فيديو!

والقلب يا إخوة حين يغشاه الذنب بعد الذنب يُطبَع عليه "الران"، ثم ما يلبث أن يسود ويفسد ونحن لا زلنا ننقر بأصابعنا على الشاشات!

إخوة القردة والخنازير قبَّحهم الله قد ضربونا في مَقتل!
لا بد أن نعترف بهذا ثم نسعى في البحث عن حلول، ولا بد من وعيٍ يهز الشباب هزاً عنيفاً يُوقظهم من غفلتهم، ويُذكرهم بمستقبلهم وأهدافهم.

قضيتُ اليومين الماضيين في حَيرة شديدة، وحدثتني نفسي أن أحذف كل ما يربطني بعالم الإنترنت، حتى أعود لنفسي وتعود لي ذاتي التي فقدتُها بين ركام الصور وأشتات المنشورات، والفوضى البصرية التي أعيشها كل يوم.
ثم عدتُ باللوم على نفسي وقلتُ: ويحَك!
أفلا تُصيب القوم في مَقتل؟ أفلا تجعل سلاحهم سلاحاً عليهم؟!

وعادت إليَّ نفسي تعظني وتعظ الشباب معي قائلةً:
سنبقى على هذه الشبكة التي عمَّت بها البلوى، نأخذ منها ما نحتاجه، ونُنقذ من ظلامها من استطعنا، سائلين الله أن يُجنبنا أشواكها -الشهوات والشبهات-، وسنشمر الثوب إلى الساقين ونحن نمشي في وحلها، ونتنطَّط بين الحفر والمستنقعات حَذراً أن نسقط فيها!
وسنعمل بوصيتَي الإمامين أحمد بن حنبل وابن تيمية!

ذكر ابن عقيل وغيره عن الإمام أحمد بن حنبل أنه مرةً كان يمشي في الوحل ويتوقَّى، فغاصت رجله فخاض، فقال لأصحابه: "هكذا العبد لا يزال يتوقى الذنوب فإذا واقعها خاضها".
ومفهوم كلامه أن المرء لا بد أن يتحرى ويحترس ولو من صغار الذنوب. 
 
وقال ابن القيم:
"قال لي شيخ الاسلام رضي الله عنه -وقد جعلتُ أُورد عليه إيراداً بعد إيراد-: لا تجعل قلبك للإيرادات والشُبُهات مثل الإسفنجة فيتشربها فلا يُنضح إلا بها، ولكن اجعله كالزجاجة المُصمتة تمر الشبهات بظاهرها ولا تستقر فيها، فيراها بصفائه ويدفعها بصلابته، وإلا فإذا أشربت قلبك كل شبهة تمر عليها صار مقراً للشبهات" قال ابن القيم: فما أعلم أني انتفعت بوصية في دفع الشبهات كانتفاعي بذلك.

رحمهم الله جميعاً.

وهنا تجربة شخصية أنصح بها من أدمَن هاتفه:

احذف كل شيء غير مهم في هاتفك، واحذف محادثات الواتساب يومياً، والتلجرام والرسائل النصية وسجلات الاتصال وقنوات اليوتيوب وصفحات الفيسبوك.

اجعل لنفسك أسبوع فَرز وجَرد كما هو عند التجار!
كل شيء تحتاجه ولا يضرك في دينك، ضعه في مكان محدد له؛ مجلد في الذاكرة للبرامج النافعة، وقناة أو مجموعة شخصية فيها اختياراتك للمنشورات والمقالات الجيدة فقط.

وأي شخص تتابعه على مواقع التواصل ولا يفيدك أو ربما يضرك احذفه ولا تتأخر، لا تجعل نفسك في زحام من العشوائية والضوضاء الرقمية، وتمثَّل قول الفاروق عمر رضي الله عنه: "اعتزل ما يؤذيك".

كل شيء جيد ستحتفظ به بعد الانتقاء الشديد، وكل التوافه والمُضرات ستبعدها عن نفسك، وحتى المحادثات احذفها كلها ولا تُبقيها؛ فالكلام الجيد قد بقي أثره في نفسك وهذا يكفي، والسيء في بقائه تعكير لصفو قلبك ومزاجك.

بعد أن تفعل كل هذا ستنعَم بصفاء الذهن وقوة التركيز، ولن تجد في هاتفك إلا القليل النافع، فلن تقع في شباك الإدمان بإذن الله.

يا إخوة.. ألا تفتقدون أنفسكم القديمة؟!
عودوا إليها، حتى وإن تأخر الوقت وطال الطريق..
وإن شعرتم أنكم قد ركبتم القطار الخطأ، فانزلوا في أقرب محطة، قبل أن ترتفع التكلفة وتفقدوا الوُجهَة!

دمتم بخير!

🖋️ محمد بن هيكل الأكحلي - ٢٢ ذي القعدة ١٤٤٥.

قناة بذرة وفكرة:
www.tg-me.com/بذرة وفكرة/com.bethrahwafekrah
84- عن الواقع والمواقع!

قبل عدة سنوات قام مجلس الشيوخ في أميركا بمحاكمة "مارك زوكربيرغ" مؤسس الفايسبوك عَلناً، وكان ضمن الأسئلة التي طُرحت عليه: ما اسم الفندق الذي قضيت فيه ليلتك الماضية؟ فتحرَّج مارك عن الإجابة؛ لأنه يعرف قيمة الخصوصية التي لا نعرفها نحن!
وصَحَّ لنا هنا المثل القائل: بائع السم لا يتذوقه!

منذ مَطلع العقد الأول بعد الألفين الميلادي، وشركات التكنولوجيا تتصارع صِراع الدواب حول السوق العالمي!
ظهرت شركات واختفت، وظهرت أخرى من بعدها وتربَّعت على عرش السوق فوق ركام الشركات السابقة!
يتسابقون فقط نحو جذب اهتمامك، وإثارة فضولك!

اللعنة الحقيقية لم تكن عند ابتكار (ياهو) ولا (ماي سبيس) وغيرها، وإنما حين ظهر العملاق الأزرق لأول مرة في السوق عام 2004 الميلادي!

ذلك هو الفايسبوك! لعنة القرن!
الذي انتشر كالهشيم في الأوساط الشبابية والطلابية، ثم صار تطبيقاً لجميع الفئات، ثم تربَّع على عرش الانترنت إلى يومنا هذا!
بل أنجَب أبناء غير شرعيين؛ إنستجرام وواتساب وماسنجر!
بل تحوَّل جنسياً -قبَّحه الله-، وصار شركة "ميتا" المؤنثة بعد أن كان "فايسبوك" المذكر!

وعلى الكفة الأخرى ظهرت شركات منافسة مثل "يوتيوب وتويتر (إكس حالياً) وسنابشات وتلجرام" تُقاسمها الشهرة والسيطرة، مع الإقرار بأن هذا الأخير هو أفضلها جميعها.

وهذه المواقع يرأسها أقوامٌ لا نعرف عنهم شيئاً، وليس "مارك" ولا "ماسك" إلا واجهة عَرض فقط، يظهرون على الإعلام ويُلقون الخطابات!
وتهدف جميعها إلى جمع المعلومات والاهتمامات البشرية لتوظفها في طرائق ووسائل للسيطرة على تفكير البشر!
وما هو خلف الكواليس أكثر مما هو أمامها، وكلما حاول أقوامٌ توضيح هذه الأمور أقصَوهم من الظهور!

انظر كيف أنهم يُظهِرون لنا على الهواتف ما نرغب حقاً برؤيته!
وانظر كيف يكادون ينزعوننا عن واقعنا، ويصنعون منا نسخاً متطابقة، عاكفة على هواتفها لا تأثير لها على المجتمع!

ولا يغرنَّكَ وَهم التأثير على مواقع التواصل ولا وَهم الشهرة، فهي وإن كانت مؤثرة حقاً في صناعة الآراء والقرارات لكنها ليست كالواقع، بل قد صرَّح أحد رجالات تلك المنظومة قائلاً: "لو شاهد ألف شخص الشيخ الفلاني على اليوتيوب فلا خوف علينا، ولكن لو حضر عشرة فقط في حلقته في المسجد، سيصبح لدينا عشر نسخ من ذلك الشيخ، وهنا المشكلة!".

وإن لم تقتنع بتأثير هذه المواقع على أدمغتنا، جرب أن تقضي أربع أو خمس ساعات في التصفح، -كما يفعل ملايين البشر في العالم- ستجد أنها قد تكوَّنت ضوضاء وغوغاء في ذهنك، وسحابة ضبابية تغطي بصيرتك.
فلو حاولت أن تحفظ شيئاً بعد جلسة التصفح، ستجد نفسك تعاني، هذا إن استطعت أصلا!

يتم تخدير اللا وعي في أجسادنا للتأقلم مع هذه المواقع واعتبار واقعها الافتراضي هو واقعنا الحقيقي، والنفس الباحثة عن اللذات والراحة لا شك أنها ستقبل به، بل ستُرغِم الغُدَد الجسدية أن تُفرز هرمون "الدوبامين" حتى نشعر بفرط السعادة!

لو خرجتَ مع أصدقائك أو أهلك، يكون جسدك معهم وتركيزك وقلبك يسبحان بعيداً، وتفتأ تتفقد هاتفك كل هُنيهَة كالأم القلقة على وليدها! 
والمناظر الجميلة التي تراها في مُتنزه أو مكان بري لن تجدها مُشبِعة لبصرك؛ لأنك قد اعتَدتَ التأثيرات البصرية والصوتية حتى صرتَ ترى الواقع باهتاً لا متعة فيه!

وكاميرا هاتفك قد أخذت دور قزحية عينك، وجروب الواتساب صار بديلاً عن لمَّة العائلة ولمَّة الأصحاب، وما كنتَ بالأمس تستمتع برؤيته صرتَ اليوم تستمتع بعدد اللايكات عليه بعد أن تلتقط له عشرات الصور!

ألا تشعر أن واقعنا يُسرَق! وخصوصيتنا تُنتهك!
أنا أعلم أنكَ لستَ مُهماً في هذا العالم ولستَ مُلاحَقاً من قِبَل الأمن الفيدرالي، ولا شيء من هذا القبيل!

ولكنهم يأخذون معلوماتك ويصنعون منها سهماً في نَحرك!
يضربونك بما تعرف! ويُضعِفونك بما تُحب!
يعرفون عنك أشياء لا تعرفها عن نفسك!
يراقبون اهتماماتك وما يُثير فضولك وما يُزعجك، بدقة عالية، حتى مدة الضغطة والتمرير بإصبعك إلى الصفحة التالية محسوبةٌ عندهم، ويُقيمون عليها نتائج وفوائد!

الأمر مُهول حقاً!
كيف استطاعوا أن يسرقونا من أنفسنا ومن واقعنا!
كيف أسكَتوا أفواهنا وأنطَقوا أصابعنا!
كيف جعلوا الشخص يعيش في غربةٍ مع أهل بيته، والغرباء يعرفون عنه أكثر مما يعرف هو عن نفسه!

إن لم تكن هذه صفعةَ يَقَظة فلا مُوقِظ لنا غيرها إلا أن يشاء الله!

لا تفقدوا اللحظات الحقيقية في حياتكم، ولا تستبدلوها بعوالم وهمية؛ فمناظر الطبيعة وضحكات صبية الأسرة واجتماعات الأصدقاء، كل هذه لن تصفها أقلام الأدباء، ولن ترسمها ريشات الرسامين، ومن باب أولى لن تُعوض عنها صفحات المواقع!

لا شيء سيُخلدها في أنفسكم سوى خيال عابر في شريط الذاكرة، يزور المرء بين الفينة والأخرى، ليُعيد البَشاشة إلى روحه، ويُذكره أنه كان يوماً ما يعيش واقعاً بعيداً عن المواقع!

دمتم بخير.

🖋️ محمد بن هيكل الأكحلي - ٢٤ ذي القعدة ١٤٤٥.

قناة بذرة وفكرة:
www.tg-me.com/بذرة وفكرة/com.bethrahwafekrah
2024/06/02 14:57:48
Back to Top
HTML Embed Code: